يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يجوز تكفير المسلم بذنبٍ فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القِبلة.. والخوارج المارقون الذين أمر النبيُّ بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمةُ الدِّين.. ولم يكفِّرْهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم من الصحابة، بل جعَلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم عليٌّ حتى سفكوا الدم الحرام، فقاتلهم لدفع ظلمهم، لا لأنهم كفار؛ ولهذا لم يَسْبِ حريمهم، ولم يغنَمْ أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالُهم بالنص والإجماع، لم يكفروا، فكيف بالطوائف المختلفين، الذين اشتبه عليهم الحقُّ في مسائلَ غلطوا فيها.. فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفِّر الأخرى، ولا تستحل دمَها ومالها، وإن كان فيها بدعةٌ محققة"[1].
وقد ذكر الشاطبي - أحد علماء المالكية - أن الطوائف المتأولة لو ابتدعت واعتنقت بعض الاعتقادات غير الصحيحة بتأويلها، فإنه مع ذلك لا يجوز قتالُها ما لم تخرج عن الجماعة، وتحارب الدولة، وضرب لذلك مثلاً:
ما صنع عليٌّ في الخوارج، وكونه عامَلهم في قتالهم معاملةَ أهل الإسلام؛ حيث إنه لما اجتمعت الحَرُورية من الخوارج، وفارقت الجماعةَ، لم يُهجِّرهم عليٌّ ولا قاتَلهم، كما ضرب الشاطبي مثلاً فعل الصحابة - رضي الله عنهم - حين ظهر مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، وغيره من أهل القدر؛ حيث لم يكن من السلف لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران، دون إقامة الحد المقام على المرتدين.
وكذلك فعَل عمر بن عبدالعزيز أيضًا لما خرج في زمانه الحَرورية بالموصل، أمَر بالكف عنهم على ما أمَر به عليٌّ - رضي الله عنه - ولم يعاملهم معاملةَ المرتدِّين[2].
وقد أكد ابنُ قدامة - من فقهاء الحنابلة - عدم جواز قتال الطوائف المسلمة، التي قد تعتنق المفاهيم والأفكار المبتدعة بتأويل، إذا لم تقاتل الدولة؛ حيث بيَّن ابن قدامة أنه إذا أظهر قومٌ رأيَ الخوارج - مثل تكفير فعل كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام - فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم.
وذكر ابن قدامة أن هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور أهل الفقه، وأنه قد روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز؛ حيث استدل هؤلاء الفقهاء على ذلك بفعل عليٍّ - رضي الله عنه - فإنه كان يخطب يومًا فقال رجل في باب المسجد: لا حُكم إلا لله، فقال علي: كلمةُ حق أريد بها باطل، ثم قال: "لكم علي ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله، أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال"، كما احتج الفقهاء أيضًا بما ورد من أن عدي بن أرطاة، كتب إلى عمر بن عبدالعزيز أن الخوارجَ يسبُّونك، فكتب له: إن سبُّوني فسُبَّهم، أو اعف عنهم، وإن شهروا السلاح فاشهر عليهم، وإن ضربوا فاضرب، ومن الأدلة على ذلك أيضًا أن النبي - عليه السلام - لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة.. فعدمُ التعرض لغيرهم أَوْلى..[3].
ويعلل الشاطبي السبب، الذي من أجله لم يشرع الإجبار والإكراه، عمن انتسب إلى الإسلام من أهل البدع، ما لم يرتدوا أو يشهروا السلاح، بأن أهلَ هذه الفرق المبتدعة، قد ظهر منهم اتحادُ القصد مع أهل السنة والجماعة، في مطلب واحد هو الانتساب إلى الشريعة، إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين، وإنما وقع اختلافُهم في الطريق، فحصل من هذا الخلافُ في هذه المسألة من أصول الدين، وصار بصحة القصد، كالخلافات في فروع الأحكام، في كونه لا يخلُّ بصحة الإسلام، وفي كون المخطئ يُعذَرُ فيه[4].
ولهذا يقول الشاطبي لتأكيد المعنى السابق من عدم الإكراه لأهل الفرق:
ذلك أن كل فرقة تدعي الشريعة.. وأنها المتبعة لها.. وهي تناصب العداوة من نسبها إلى الخروج عنها.. وبذلك يخالِفونَ مَن خرج عن الإسلام؛ لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقرَّ به ورضيه.. بخلاف هؤلاء الفرق؛ فإنهم مدَّعون الموافقة للشارع، والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. (وسبب العداوة بينهم وبين أهل السنة) ادعاءُ بعضهم على بعضٍ الخروجَ على السنَّة[5]، وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية - على الخصوص - وجَدْنا كل طائفة تتعلَّقُ بذلك أيضًا..[6].
ومن هذه الأقوال يتأكد أنه ليس للدولة إجبار أو إكراه على اعتناق عقائدَ متنازَع فيها، أو أحكام تعبدية متنازع فيها بين المسلمين، ما دام المخالف لم يخرُجْ عن دائرة الإسلام، وما دامت العبادات أو الأحكام التي يعتنقها مرجعُها في فهمه وعلمه إلى الكتاب، والسنَّة، وأدلة الشرع، حتى ولو كانت هذه الأحكامُ والعقائد بِدَعًا محققة في نظر الدولة.
ويتأكد هذا المعنى أيضًا من تجويز الفقهاء لولاية من كان يحمل اعتقادًا خلاف الحق، بشبهة أو بتأويل؛ حيث ذكر الماوردي قولَ كثير من علماء البصرة: إن الاعتقاد خلاف الحق بتأويل وشبهة، "لا يمنَعُ من انعقاد الإمامة، ولا يخرج من فيها، كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة"[7].
[1] فتاوى ابن تيمية، الجزء الثالث، صفحة 282.
[2] الشاطبي، الاعتصام، مرجع سابق، الجزء الثاني، صفحة 186.
[3] ابن قدامه المقدسي، المغني، الجزء الثامن، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة بدون تاريخ، صفحة 111 - 112.
[4] الشاطبي، الاعتصام، مرجع سابق، الجزء الثاني، صفحة 87.
[5] المرجع السابق، صفحة 203.
[6] المرجع السابق، الجزء الثاني، صفحة 253.
[7] الماوردي، الأحكام السلطانية، صفحة 17.