الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد : فهذه سلسلة جديدة من الدروس المفيدة للعلامة المربي فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله وغفر له تكلم فيها حول التكفير وما يتصل به وأجاب فيها عن بعض أسئلة الطلاب ، خاصة وان هذه القضية زاد لهيبها بين أمة الإسلام هذا الزمان واستعملت فيه عبارات براقة ولكن حقيقتها مقززة محرقة مفرقة .
وأصل هذه المادة في الشريط رقم 26 من شرح الطحاوية قام بتفريغها أحد الإخوة جزاه الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة .
قال الشيخ حفظه الله وغفر له :
" السؤال : مسألة وهي: أن كل من انتسب إلى القبلة من أهل الأهواء والبدع وغيرهم ينتسبون إلى الإسلام، ومن قال إن المجتمعات مجتمعات جاهلية فكيف يكون الإيضاح على هذا الأمر؟
الجواب : الأول ذكرناه وقررناه لكم فيما سبق أن من كان منتسبا إلى القبلة بالصلاة إليها من أهل التوحيد فهو من أهل القبلة، وإذا عرض له هوى أو بدعة فإن البدعة درجات والأهواء أيضا درجات، فلا نخرجه من الإسلام لبدعة فيه يعني لمجرد بدعة فيه أو بكل بدعة فيه، ولا نخرجه من الإسلام لمجرد الهوى الذي يكون في هذه الأمة؛ بل لابد أن يكون الهوى مؤثرا أو أن تكون البدعة مغلظة مكفرة.
أما من قال مجتمعات المسلمين اليوم مجتمعات جاهلية، فهذا باطل؛ لأن الجاهلية في النصوص هي اسم لفترة زمنية مضت قال جل وعلا (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وقال سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]، وهذه الجاهلية تكون في العقيدة في العبادة تكون في الأحوال الاجتماعية وتكون في الأخلاق تكون في الآداب، فهي من جهة الزمان انقضت زمانها ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وأما من جهة المكان فإن الجاهلية اسم يتبع صفة الجهل، والجهل يتنوع، والجهل العام ارتفع ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، لهذا قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق» ووجود هذه الطائفة على الحق حتى قيام الساعة يمنع رجوع الجهل العام ورجوع الجاهلية العامة.
فإذن الجاهلية العامة في الأمكنة ذهبت، وجاهلية الزمان ذهبت، بقي نوع آخر من الجاهلية وهو جاهلية الصفات، فمن أشبه أهل الجاهلية في صفة فهو مشارك لهم في هذه الصفة، كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر لما عيّر رجلا أسودا بأمه فقال له: يا ابن السوداء. قال له عليه الصلاة والسلام «إنك امرؤ فيك جاهلية» يعني فيك خصلة من خصال أهل الجاهلية، وخصال الجاهلية متنوعة كثيرة دل عليها القرآن والسنة يعني فيما خالف فيه رسول الله أهل الجاهلية، (وألّف في هذا إمام هذه الدعوة الكتاب المشهور مسائل أهل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية)، وتلك المسائل منها ما هو مكفّر كعبادة غير الله، منها ما هو في الاعتقادات، منها ما هو في المسائل العملية، ومنها ما هو في الاجتماعيات، ومنها ما هو في الأقوال إلى آخره، فالجاهلية جاهلية الصفات هذه باقية، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «تسلكُنَّ مسلك الأمم من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال «فمن الناس إلا أولئك»، فارس والروم خصالهم من خصال الجاهلية؛ بل خصالهم خصال جاهلية في الاعتقاد وفي الأقوال وفي الأعمال، فدل على أن خصال الجاهلية تكون في هذه الأمم.
فإذن وصف الأرض أنها صارت إلى جاهلية هذا باطل، ومناقض لحكم النبي ؛ بل وحكم الله جل جلاله في قوله "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا"[الفتح:28]، فظهر دين محمد عليه الصلاة والسلام على كل دين وظهرت ملته على كل ملة وظهر هديه على كل هدي.
والحمد لله على ذلك كما قال جل جلاله "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"[الشرح:4]، فرفع ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فوق ذكر غيره، فصار هو المقدم عليه الصلاة والسلام في الاتباع وفي الهدي في أكثر الأرض ولله الحمد.
كذلك جاهلية الزمان لا يوجد زمان يكون الزمان زمان جاهلية؛ لأن زمن الجاهلية انتهى ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يقال مثلا هذا القرن قرن جاهلي، أهل هذا القرن في جاهلية ونحو ذلك؛ بل لا تزال في أمة محمد عليه الصلاة والسلام صنوف الخير ولله الحمد على منته وتوفيقه... " انتهى
نتابع كلام الشيخ حفظه الله وغفر له
و في شرحه لقول العلامة الطحاوي رحمه الله وغفر له:( ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ ، وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذَنْبٌ لمنْ عَمِلَه) قال :
" ... الحمد لله، وبعد:
هذه الجملة من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله من الأصول العظيمة في معتقد أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفِّرون أحدا من أهل القبلة بمجرد حصول الذنب منه إلا إذا استحله باعتقاد ؛ كونه حلالا له أو حلالا مطلقا، وكذلك أنهم لا يخففون أمر الذنوب بحيث يجعلون الذنب غير مؤثر في الإيمان، لهذا قال تقريرا لهذا الأصل العظيم (ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ ، وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذَنْبٌ لمنْ عَمِلَه) ، وهذه الجملة من كلامه أراد بها أن حصول الذنب من أهل القبلة لا يعني تكفيره كما ذهبت إلى ذلك الخوارج، وحصول الذنب من أهل القبلة لا يعني أنّ هذا المؤمن لم يتأثر بحصول الذنب منه كما تقوله المرجئة، فخالف في هذا القول الخوارج والمعتزلة وخالف أيضا المرجئة.
وهذه المسألة لاشك أنها من المسائل العظيمة جدا وهي مسألة التكفير : تكفير المنتسب إلى القبلة الذي ثبت إسلامه وإيمانه، إذا حصل منه ذنب فإن قاعدة أهل السنة والجماعة أن من دخل في الإسلام والإيمان بيقين لم يخرجه منه مجرد ذنب حصل منه، ولا يخرجه منه كل ذنب حرّمه الشارع؛ بل لابد في الذنوب العملية من الاستحلال بأن يعتقد أن هذا العمل منه حلال له وليس بذنب وأنه ليس بمحرم، وهذا هو طريقة أهل السنة والجماعة بأنهم لا يكفرون؛ بل يخطئون أو يضللون أو يفسقون، فنقول مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، مسلم بما معه من التوحيد؛ ولكنه فاسق لما ارتكب من الكبيرة التي أظهرها ولم يتب منها. فهذه الجملة فيها تقرير لعقيدة أهل السنة ومخالفتهم للخوارج والمعتزلة وكذلك فيها مخالفة أهل السنة للمرجئة.
إذا تبين هذا فتحت هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى: في الدليل؛ دليل أهل السنة والجماعة على أن من أصاب ذنبا من أهل القبلة فإنه لا يُكَفَّر دل على ذلك جملة أدلة من الكتاب والسنة:
منها قول الله جل وعلا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى"[البقرة:178]، ومعلوم أن القاتل داخل في هذا الخطاب في النداء بالإيمان، وقال جل وعلا بعدها "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" [البقرة:178]، فسماه أخا له فدل على أن حصول القتل على عظمه لم ينف اسم الإيمان.
وكذلك قوله جل وعلا " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" [الحجرات:9-10]، فسماهم مؤمنين وسماهم إخوة أيضا ، فوصفهم بالأخوة فدل على أن وقوع القتل منهم لم ينفِ اسم الإيمان، مع قوله جل وعلا "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ"[النساء:93]، فأثبت له جهنم وعيدا، وغضب الله جل وعلا عليه واللعنة، ومع ذلك لم ينف عنه اسم الإيمان، فدل على أن وقوع الكبيرة من المسلم لا يسلب عنه الإيمان، ووقوع الذنب ليس مبيحا لإخراج هذا المذنب من أصل الإسلام إلى الكفر.
ويدل على ذلك أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري وغيره حينما أوتي برجل من الصحابة يقال له حمار شرب الخمر فجلده، ثم شربها ثانية فأوتي به فجلده، ثم لما أوتي به الثالثة قال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام «لا تقولوا ذلك فإنه يحبّ الله ورسوله» فدل على أن وجود المحبة الواجبة لله جل وعلا ولرسوله ( مع حصول الكبيرة ) مانع من لعْنه، وهذا يعني أنها مانع من تكفيره ومن إخراجه من الدين من باب الأولى.
كذلك قال الله جل وعلا " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ"[الممتحنة:1]، فناداهم باسم الإيمان مع حصول الذنب منهم وهو الإلقاء بالمودة إلى عدو الله جل وعلا وعدو رسوله فدل على أن إلقاء المودة لأمر الدنيا ليس مخرجا من اسم الإيمان؛ بل يجتمع معه قال تعالى في آخر الآية "وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ"[الممتحنة:1].
وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة في إسراره للكفار بخبر رسول الله ما يدل على وقوع الذنب منه وعلى مغفرة الذنب له لأنه من أهل بدر، قال عليه الصلاة والسلام في حقه «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم» ، في الرواية الثانية «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
والأدلة على هذا الأصل عند أهل السنة والجماعة كثيرة... " انتهى
أما بعد : فهذه سلسلة جديدة من الدروس المفيدة للعلامة المربي فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله وغفر له تكلم فيها حول التكفير وما يتصل به وأجاب فيها عن بعض أسئلة الطلاب ، خاصة وان هذه القضية زاد لهيبها بين أمة الإسلام هذا الزمان واستعملت فيه عبارات براقة ولكن حقيقتها مقززة محرقة مفرقة .
وأصل هذه المادة في الشريط رقم 26 من شرح الطحاوية قام بتفريغها أحد الإخوة جزاه الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة .
قال الشيخ حفظه الله وغفر له :
" السؤال : مسألة وهي: أن كل من انتسب إلى القبلة من أهل الأهواء والبدع وغيرهم ينتسبون إلى الإسلام، ومن قال إن المجتمعات مجتمعات جاهلية فكيف يكون الإيضاح على هذا الأمر؟
الجواب : الأول ذكرناه وقررناه لكم فيما سبق أن من كان منتسبا إلى القبلة بالصلاة إليها من أهل التوحيد فهو من أهل القبلة، وإذا عرض له هوى أو بدعة فإن البدعة درجات والأهواء أيضا درجات، فلا نخرجه من الإسلام لبدعة فيه يعني لمجرد بدعة فيه أو بكل بدعة فيه، ولا نخرجه من الإسلام لمجرد الهوى الذي يكون في هذه الأمة؛ بل لابد أن يكون الهوى مؤثرا أو أن تكون البدعة مغلظة مكفرة.
أما من قال مجتمعات المسلمين اليوم مجتمعات جاهلية، فهذا باطل؛ لأن الجاهلية في النصوص هي اسم لفترة زمنية مضت قال جل وعلا (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وقال سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]، وهذه الجاهلية تكون في العقيدة في العبادة تكون في الأحوال الاجتماعية وتكون في الأخلاق تكون في الآداب، فهي من جهة الزمان انقضت زمانها ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وأما من جهة المكان فإن الجاهلية اسم يتبع صفة الجهل، والجهل يتنوع، والجهل العام ارتفع ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، لهذا قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق» ووجود هذه الطائفة على الحق حتى قيام الساعة يمنع رجوع الجهل العام ورجوع الجاهلية العامة.
فإذن الجاهلية العامة في الأمكنة ذهبت، وجاهلية الزمان ذهبت، بقي نوع آخر من الجاهلية وهو جاهلية الصفات، فمن أشبه أهل الجاهلية في صفة فهو مشارك لهم في هذه الصفة، كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر لما عيّر رجلا أسودا بأمه فقال له: يا ابن السوداء. قال له عليه الصلاة والسلام «إنك امرؤ فيك جاهلية» يعني فيك خصلة من خصال أهل الجاهلية، وخصال الجاهلية متنوعة كثيرة دل عليها القرآن والسنة يعني فيما خالف فيه رسول الله أهل الجاهلية، (وألّف في هذا إمام هذه الدعوة الكتاب المشهور مسائل أهل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية)، وتلك المسائل منها ما هو مكفّر كعبادة غير الله، منها ما هو في الاعتقادات، منها ما هو في المسائل العملية، ومنها ما هو في الاجتماعيات، ومنها ما هو في الأقوال إلى آخره، فالجاهلية جاهلية الصفات هذه باقية، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «تسلكُنَّ مسلك الأمم من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال «فمن الناس إلا أولئك»، فارس والروم خصالهم من خصال الجاهلية؛ بل خصالهم خصال جاهلية في الاعتقاد وفي الأقوال وفي الأعمال، فدل على أن خصال الجاهلية تكون في هذه الأمم.
فإذن وصف الأرض أنها صارت إلى جاهلية هذا باطل، ومناقض لحكم النبي ؛ بل وحكم الله جل جلاله في قوله "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا"[الفتح:28]، فظهر دين محمد عليه الصلاة والسلام على كل دين وظهرت ملته على كل ملة وظهر هديه على كل هدي.
والحمد لله على ذلك كما قال جل جلاله "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"[الشرح:4]، فرفع ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فوق ذكر غيره، فصار هو المقدم عليه الصلاة والسلام في الاتباع وفي الهدي في أكثر الأرض ولله الحمد.
كذلك جاهلية الزمان لا يوجد زمان يكون الزمان زمان جاهلية؛ لأن زمن الجاهلية انتهى ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يقال مثلا هذا القرن قرن جاهلي، أهل هذا القرن في جاهلية ونحو ذلك؛ بل لا تزال في أمة محمد عليه الصلاة والسلام صنوف الخير ولله الحمد على منته وتوفيقه... " انتهى
نتابع كلام الشيخ حفظه الله وغفر له
و في شرحه لقول العلامة الطحاوي رحمه الله وغفر له:( ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ ، وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذَنْبٌ لمنْ عَمِلَه) قال :
" ... الحمد لله، وبعد:
هذه الجملة من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله من الأصول العظيمة في معتقد أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفِّرون أحدا من أهل القبلة بمجرد حصول الذنب منه إلا إذا استحله باعتقاد ؛ كونه حلالا له أو حلالا مطلقا، وكذلك أنهم لا يخففون أمر الذنوب بحيث يجعلون الذنب غير مؤثر في الإيمان، لهذا قال تقريرا لهذا الأصل العظيم (ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ ، وَلا نَقُولُ: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذَنْبٌ لمنْ عَمِلَه) ، وهذه الجملة من كلامه أراد بها أن حصول الذنب من أهل القبلة لا يعني تكفيره كما ذهبت إلى ذلك الخوارج، وحصول الذنب من أهل القبلة لا يعني أنّ هذا المؤمن لم يتأثر بحصول الذنب منه كما تقوله المرجئة، فخالف في هذا القول الخوارج والمعتزلة وخالف أيضا المرجئة.
وهذه المسألة لاشك أنها من المسائل العظيمة جدا وهي مسألة التكفير : تكفير المنتسب إلى القبلة الذي ثبت إسلامه وإيمانه، إذا حصل منه ذنب فإن قاعدة أهل السنة والجماعة أن من دخل في الإسلام والإيمان بيقين لم يخرجه منه مجرد ذنب حصل منه، ولا يخرجه منه كل ذنب حرّمه الشارع؛ بل لابد في الذنوب العملية من الاستحلال بأن يعتقد أن هذا العمل منه حلال له وليس بذنب وأنه ليس بمحرم، وهذا هو طريقة أهل السنة والجماعة بأنهم لا يكفرون؛ بل يخطئون أو يضللون أو يفسقون، فنقول مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، مسلم بما معه من التوحيد؛ ولكنه فاسق لما ارتكب من الكبيرة التي أظهرها ولم يتب منها. فهذه الجملة فيها تقرير لعقيدة أهل السنة ومخالفتهم للخوارج والمعتزلة وكذلك فيها مخالفة أهل السنة للمرجئة.
إذا تبين هذا فتحت هذه الجملة مسائل:
المسألة الأولى: في الدليل؛ دليل أهل السنة والجماعة على أن من أصاب ذنبا من أهل القبلة فإنه لا يُكَفَّر دل على ذلك جملة أدلة من الكتاب والسنة:
منها قول الله جل وعلا " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى"[البقرة:178]، ومعلوم أن القاتل داخل في هذا الخطاب في النداء بالإيمان، وقال جل وعلا بعدها "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" [البقرة:178]، فسماه أخا له فدل على أن حصول القتل على عظمه لم ينف اسم الإيمان.
وكذلك قوله جل وعلا " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" [الحجرات:9-10]، فسماهم مؤمنين وسماهم إخوة أيضا ، فوصفهم بالأخوة فدل على أن وقوع القتل منهم لم ينفِ اسم الإيمان، مع قوله جل وعلا "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ"[النساء:93]، فأثبت له جهنم وعيدا، وغضب الله جل وعلا عليه واللعنة، ومع ذلك لم ينف عنه اسم الإيمان، فدل على أن وقوع الكبيرة من المسلم لا يسلب عنه الإيمان، ووقوع الذنب ليس مبيحا لإخراج هذا المذنب من أصل الإسلام إلى الكفر.
ويدل على ذلك أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري وغيره حينما أوتي برجل من الصحابة يقال له حمار شرب الخمر فجلده، ثم شربها ثانية فأوتي به فجلده، ثم لما أوتي به الثالثة قال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام «لا تقولوا ذلك فإنه يحبّ الله ورسوله» فدل على أن وجود المحبة الواجبة لله جل وعلا ولرسوله ( مع حصول الكبيرة ) مانع من لعْنه، وهذا يعني أنها مانع من تكفيره ومن إخراجه من الدين من باب الأولى.
كذلك قال الله جل وعلا " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ"[الممتحنة:1]، فناداهم باسم الإيمان مع حصول الذنب منهم وهو الإلقاء بالمودة إلى عدو الله جل وعلا وعدو رسوله فدل على أن إلقاء المودة لأمر الدنيا ليس مخرجا من اسم الإيمان؛ بل يجتمع معه قال تعالى في آخر الآية "وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ"[الممتحنة:1].
وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة في إسراره للكفار بخبر رسول الله ما يدل على وقوع الذنب منه وعلى مغفرة الذنب له لأنه من أهل بدر، قال عليه الصلاة والسلام في حقه «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم» ، في الرواية الثانية «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
والأدلة على هذا الأصل عند أهل السنة والجماعة كثيرة... " انتهى