الحمدُ لله القائلِ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]، والقائلِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41].
والصَّلاة والسَّلام على نبي ِّالرحمة والملحَمة، القائلِ: ((لرَوْحةٌفيسبيلِاللهِ أو غَدوةٌ خيرٌ من الدُّنيا ومافيها)) (رواه البخاري)، والقائلِ: ((مَن ماتولميَغزُ،ولميحدِّث به نفسَه، مات علَى شُعبةٍ من نفاقٍ)) (رواه مسلم).
أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِن أصول أهل السُّنَّة والجماعة اعتقادَهم بفرضيَّة الجهاد وبقائِه إلى قيام السَّاعة؛ طلبًا ودفعًا، وهو من أفضلِ القُرُبات، ومن أعظم الطَّاعات، والآياتُ والأحاديث في فضلِ الجهاد والمجاهدين بالمال والنَّفس، والتحذيرِ من تركه، والإعراضِ عنه، أكثرُ من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر، لكن مِن المؤسف أنَّ بعضَ من اشتغل بالجهاد صار عنده غُلوٌّ وتجاوز، فكمْ نصَح لهم الناصحون، وتكلَّم المشفِقون، وحذَّر المحذِّرون، لكن ما من مستجيب! وما زال بعضهم يتَّهمون مخالفيهم، بل ناصحيهم، بالجهل والتضليل تارةً، وبالعمالة تارةً أخرى، في سلسلةٍ طويلةٍ من الاتهامات تنبئ عن عدم قَبول النُّصح، الأمر الذي جعَل بعض المناصرين لشعيرة الجهاد يُحجمون عن الردِّ، فتفاقمَ الأمرُ حتى بات السُّكوتُ عن ذلك خيانةً للأمانة التي حمَّلها الله أهلَ العلم؛ {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وفي هذه الوريقات إشارات ووقفات لبعض الشُّبهات والأطروحات على السَّاحة الجهاديَّة؛ موجَّهة بالدَّرجة الأولى إلى الشَّباب المتحمِّس للجهاد؛ لعلَّ الله أن ينفع بها، وليس الهدفُ منها ذِكرَ مثالب الجهاد والمجاهدين، فباطن الأرضِ خيرٌ من ظاهرها لمَن سوَّلت له نفْسُه ذلك، ولكنَّه النُّصح المحض لهم وللأمَّة، والله على ما أقولُ شهيد.
وقبل البَدء، هذه خمسُ إشاراتٍ تُؤسِّسُ لما يأتي من وقفات:
الإشارة الأولى:
عدَمُ حثِّ الشباب على الذَّهاب إلى ساحة الجهاد في بلدٍ ما، لا يَعني تثبيطَهم عنه، ولا تنفيرَهم منه؛ فهناك فرقٌ بين التَّثبيط عن الجِهاد والتنفيرِ منه، وبين عدم الحثِّ عليه، لا سيَّما إذا كان عدَمُ الحثِّ راجعًا إلى مقصدٍ شرعيٍّ.
الإشارة الثانية:
تحذيرُ عالمٍ من العُلماء من الذَّهاب إلى ساحة الجهاد في بلدٍ ما، لا يَعني تحذيرَه من الجِهاد بإطلاق؛ فقد يكون ظهَر له سببٌ دَعاه إلى ذلك.
الإشارة الثالثة:
تحذيرُ عالمٍ من العلماء من الذَّهاب إلى ساحة الجهاد في بلدٍ ما، تحتَ راية فصيلٍ من الفصائل، لا يَعني تحذيرَه من الجهاد تحت راياتٍ أُخرى في ذاك البلد نفْسه؛ فقد يكون ظهَر له غلوُّ هذا الفصيل واعتدالُ غيره.
الإشارة الرابعة:
مسألة كون الجهاد في بلدٍ ما فرضَ عينٍ أو فرضَ كفايةٍ، من المسائل الاجتهاديَّة التي لا يُضلَّل القائلُ فيها بأحد الرأيينِ.
الإشارة الخامسة:
غلوُّ جماعة أو فصيلٍ جهاديٍّ لا يُقاس فقط بما هو مسطَّر في كتُبهم وأدبيَّاتهم، بل لا بدَّ من النَّظر في ممارساتهم العَمليَّة؛ فالعِبرة بالأفعال، لا بالأقوال فقط.
الوقفات
الوقفة الأولى: الموقِف من العُلماء والدُّعاة الربانيِّين
العلماء الرَّبانيُّون ورَثةُ الأنبياء، وهم مصابيح الهُدى فيدياجيرالدُّجى، بهم يُرشَد الضالُّ، ويُهدَى الحيران، رفَعهم الله بالعِلم، وزيَّنهم بالحِلْم، وهم الذين أمَر الله بردِّ المتنازَع فيه من الأحكام إليهم، ومع ذلك فهُم غيرُ معصومين؛ فقد يُخطئ الواحد منهم، والاثنان، والثلاثة، وأكثر، وفي هذه الحالة لا نَقبل منهم خطأهم ولا نتَّبعهم فيه، لكن أن تجتمعَ كلمتُهم، أو جمهورهم في مسألةٍ ما - وقد تكون من النَّوازل - ثمَّ لا يُكترَثَ لها، ويظلَّ فِئامٌ من الناس لا يُلقون لها بالًا، ولا يستمعون إليهم، ويصرُّون على التعصُّب لأقوال مَن يُوافق مراداتهم، مع تخوينٍ ظاهرٍ لعامَّة أهل العلم؛ فهذا عينُ الحِزبيَّة التي لا نرضاها لشباب هذه الأمَّة. ورأيُ جمهور أهل العلم الصَّادقين النَّاصحين في نازلةٍ من النوازل، لا شكَّ أنَّه الأقربُ للصَّواب، أمَّا اللَّهْث وراء الفتاوى الحماسيَّة العاطفيَّة - التي تفتقِد إلى كثيرٍ من العِلم والفِقه بالواقع، ومراعاةِ مآلات الأمور، والحِلم والأناة - فهو من الجَهل والتعصُّب الذي ابتُليت به الأمَّة قديمًا وحديثًا.
وممَّا يؤدِّي إلى مِثل هذا الاحتقان والنفرة من مشايخ العِلم والحِكمة - التي ينبغي أن يقِف عندها الشباب وقفةَ إنصافٍ - ما يُردِّدُه بعض المهتمِّين بالجهاد من أنَّ هؤلاء المشايخَ يسعَون لإسقاط رموز الجهاد، ويُسفِّهونهم، ويحقِّرون خِطابهم، وأنَّهم يَسعَون لإسقاط الجهاد نفْسه، وهذا لعمرُ الله افتراءٌ على المشايخ، والأصل: أنَّ العلماء والدُّعاة الربانيِّين يُعظِّمون الجهاد، ويَحفظون لأهله قدْرَهم، لكن ليس معنى ذلك أن يسكُتوا عن غلوٍّ أو أخطاءٍ في اجتهاداتِ بعض المجاهدين؛ فالله قد عاتَب خيرَ هذه الأمَّة - صحابةَ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ورضِي عنهم وأرضاهم - وهُم في ساحة المعركة، فقال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (نزلتْ فينا يومَ أُحُد)؛ فمِن الخطأ أن يُعدَّ الحديث عن أخطاء المجاهدين وغلوِّ بعضِهم إسقاطًا لرموز الجهاد، لكن بعض مَن يردِّد ذلك للأسف ينظُر إلى الجهاد نظرةً حزبيَّةً ضيِّقة، فالجهاد عنده هو جهادُ فصيلٍ بعينه، ورموزُ الجهاد هم فلانٌ وفلان؛ فمَن حذَّر من هذا الفصيل أو أخطاءِ بعضِ رموزه، فقد أسقط الجهادَ كلَّه، حتَّى لو دعم الفصائل الأخرى، بل لو شارَك فيها بنفْسه! وهذا من تحجيمِ الجهاد وتقزيمه في فصيلٍ بعينه، وساحاتُ الجهاد لا تتحمَّل مِثلَ هذه الحزبيات؛ {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، والعجيبُ أنَّك تجد بعضهم إذا أيَّد أحدُ العلماء أو طلابُ العلم الكبار حركةً جهاديَّةً صادقةً غير حركتهم، أو أثنى عليها، اتَّهموه بالحزبيَّة!
الوقفة الثَّانية: تنزيل أحكام فرْض العين على الواقِع المعاصر
من مسائل الجِهاد التي تحتاج إلى وقفة تأمُّل: الحُكم بأنَّ الجهاد فرضُ عينٍ في بلد معيَّن، وتضليل مَن لم يقُل بذلك، وتجهيله واتِّهامه؛ فتجدُ بعضَ المجاهدين أو مَن يتبنَّى رؤيتَهم يحشُدُ عشراتِ الأقوال التي تنصُّ على أنَّ العدوَّ إذا داهم بلدًا مسلمًا، وَجَب على أهله الدِّفاعُ عنه، ورفْعُ راية الجهاد ضدَّ العدوِّ، فإنْ لم يستطعْ، فيجب على الأمَّة كلِّها أن تهبَّ لنُصرتهم، وإلَّا أثِموا جميعًا.
وهذا الحُكم من الناحية العِلميَّة التنظيريَّة صحيح - وإن كان بحاجة إلى تفصيل ليس هذا محلَّه - لكن تطبيقهم له ينقُصه الكثيرُ من الفقه والبصيرة؛ فالمسلمون اليوم في ضَعْفٍ شديد، وأعداءُ الداخل من الليبراليِّين والعلمانيِّين والرافضة يُخطِّطون لتدمير ثوابت الأمَّة قبل أعداء الخارج، وأكثرُ بلاد المسلمين فيها جراحٌ ومآسٍ؛ في فلسطين، والعراق، وسوريا، والصومال، وأفغانستان، وكشمير، والفلبين، وبورما وغيرها، وفي كثيرٍ منها حركاتٌ جهاديَّة؛ فهل يصحُّ أن نقول لجميع الناس: اذهبوا واترُكوا ما أنتم فيه من عِلمٍ وتعليم، ودَعوةٍ، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكَر، وجهادٍ باللِّسان، ومدافعةٍ للباطل، وتوجَّهوا إلى البلد الفلانيِّ، واتركوا بلدانَكم يعبَث بها العلمانيُّون والتغريبيُّون؟! أيُّ عاقل هذا الذي يدْعو إلى إخلاء بلاد المسلمين من أهل العلم، والآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والذَّابِّين عن حياض الإسلام؟! فضلًا عن أنَّ هذا البلد المنكوب من بلاد المسلمين يُعاني أهلُه من نقصٍ في الطَّعام والشَّراب، والدَّواء، والكِساء، والمسكَن، وقبل كلِّ ذلك يُعاني من نقْص في السِّلاح، ولو ذهبت أعدادٌ كبيرة، لكانت عبئًا عليهم!
وقد يقول قائلٌ:نحن لا ندعو إلى ذَهاب جميع النَّاس، نحن ندعو إلى ذَهاب مجموعةٍ منهم، حتى تحصُل الكفاية.
فيُقال لهم: وكيف نعرِف حُصولَ الكفاية؟ هبْ أنَّ عشرةً من الكتائب الجهاديَّة أقرَّت بحصول الكِفاية، فسيأتيك مَن يقول: هناك كتائبُ تقول: إنَّها ما زالت بحاجة ولم تحصُل لهم الكِفاية! وهكذا سيقولون لو ذهب عشراتٌ أو مئاتٌ أو آلاف؛ فهل من نهاية لهذا الأمر؟!
وقد يقول قائلهم: الكفاية تحصُل بهزيمة العدوِّ، وفي الحالة السوريَّة بسقوط نِظام الأسد.
فيُقال لهم: فهل حصَلت الكفايةُ في أفغانستان بسقوط الروس؟! وهل حصلت في العراق بخروج الأمريكان؟! وهل أقيمت فيهما دولة الإسلام؟! ويُقال مثل ذلك عن الصُّومال، وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة.
فهل سنظلُّ نوجب على جميع الناس ونستنفرهم للذهاب للقتال هناك؟! وما يُقال عن الذَّهاب للقتال، يُقال عن العلماء وطلبة العِلم والأطبَّاء وغيرهم، فهل المطلوب أن نستنفر كلَّ هؤلاء؛ ليخرجوا من بلدانهم ويتركوها فريسةً للأعداء، ويذهبوا إلى ساحات القتال؛ هل يقول ذلك عاقلٌ، فضلًا عن عالِم يَفقه الدِّين، ويفقه الواقع؟!
إنَّ مسائلَ العِلم الكِبار، والمسائل التي تمسُّ الأمَّةَ بعامَّة تحتاج إلى نظرٍ ثاقب، وتمامِ علمٍ وتجرِبة، ولا يتمُّ معالجتها من خلال الحماس، ولا بالنَّظر من زاوية واحدة فحسبُ، دون اعتبار للمآلات. وهذا مردُّه إلى أهل العِلم الصَّادقين الرَّاسخين فيه. ومخالِفُ ذلك لا يضرُّ العلمَ وأهلَه شيئًا، ولكنه يُعرِّض نفسه للمهالك في غير ما سداد؛ إذ يتنكَّب ما أمر الله باتِّباعه من اتِّباع أهل العِلم إلى اتِّباع ما يَهوَى ويشتهي، وإن كان ذلك في بابٍ من أبواب الطاعات، والله المستعان.
فالواجبات تتزاحَم، والكفايةُ لم تحصُل في الجميع، لا في جهاد السِّنان، ولا في جهاد القَلم والبيان، من علمٍ ودعوةٍ واحتساب، فيبقى تقديرُ الأمور بحسب المصالح والمفاسد، ومرجعه إلى أهل العلم الربَّانيين الذين لا يُهمِلون هذا، ولا يهمِّشون ذاك.
الوقفة الثالثة: الخَطأ في تنزيل أحاديث الفِتن والملاحِم على الواقع
من أخطاء مَن يكتب في مسائل الجهاد: تنزيلُ أحاديث النُّبوءات التي أخبر فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا سيكون في آخِر الزَّمان من فتنٍ وملاحِمَ على الواقع المعاصر، بل أحيانًا على فَصيلٍ جهاديٍّ بعينه، بلا علمٍ ولا بيِّنةٍ ولا بصيرة، وبهذا يُغرَّر بعضُ الشباب، وأكتفي بذِكر حديثين فقط، لطالما كُرِّرا في الأدبيَّات المتعلِّقة بالجهاد ممَّا يُطرح في السنوات الأخيرة:
الحديث الأوَّل: حديث: ((إذا أقبلت الرَّايات السُّود من المشرِق، والرَّايات الصُّفر من المغرِب، حتى يلتقوا في سُرَّة الشَّام - يعني دمشق - فهنالك البَلاء، هنالك البلاء)).
والحديث الثاني: حديث ابنِ حوالةَ: ((سيصير الأمرُ إلى أن تكون جنودٌ مجنَّدة: جندٌ بالشَّام، وجندٌ باليمن، وجُندٌ بالعراق، فقال ابنُ حوالة: خِر لي يا رسولَ الله، إنْ أدركتُ ذلك، فقال: عليك بالشَّام؛ فإنَّها خِيرةُ الله من أرضه، يَجتبي إليها خِيرتَه من عباده، فأمَّا إنْ أبيتم، فعليكم بيمنكم، واسقوا من غُدرِكم؛ فإنَّ الله توكَّل لي بالشَّام وأهله)).
وقبل الردِّ على الفَهم الخاطئ للحديثين، أودُّ التنبيه على خُطورة تنزيل هذا النَّوع من الأحاديث على واقعٍ بعينه، وأنَّ من أهمِّ الضوابط في ذلك أن يكون الحديثُ صحيحًا، وأن يكون هذا التنزيلُ على الواقع متيقَّنًا، أو يغلِب على الظنِّ صوابُه، وقال به الراسخون في العِلم، وألَّا يكون أمرًا ظنيًّا متوَهَّمًا، ولا أنْ يفسِّره كلُّ مَن شاء بظنِّه وهواه تفسيرًا بعيدًا عن دَلالته.
أمَّا حديث الرايات السُّود، فهو حديثٌ ضعيف، أخرجه نُعيم بن حمَّاد في كتاب ((الفتن)) (1/272)، وقد تفرَّد به، والتحقيق: أنَّ ما تفرَّد به في كتابه هذا لا تقوم به حُجَّة؛ قال مسلمة بن قاسم كما في ((تهذيب التهذيب)) (10/426): (له أحاديثُ منكَرة في الملاحم انفرَد بها)، وقال الذهبيُّ في ((السير)) (9/27): (لا يجوز لأحدٍ أن يحتجَّ به، وقد صنَّف كتاب الفتن فأتى فيه بعجائبَ ومناكير).
وعليه؛ فلا يصحُّ الاعتمادُ على هذا الحديث، ولا اعتقادُ ما جاء فيه، فضلًا عن تنزيله على واقعٍ معيَّن؛ فإنَّ دليلَه لم يثبت أصلًا حتى يُبنَى عليه أيُّ اعتقاد، أو أيَّةُ تصوُّراتٍ أو أحكام.
وأمَّا حديث ابن حَوالة، فهو حديث صحيح، ولا شكَّ أنَّ الشَّام - بحدودها المعروفة في كتُب الأقاليم والبلدان، وليس سوريا فقط كما قد يتبادَر إلى الذهن - بلدٌ مبارَك، وردتْ في فضله أحاديثُ كثيرةٌ، منها هذا الحديث، وفيه أنَّ الله توكَّل بالشام، وأنَّها خِيرةُ الله من أرضه، لكن تنزيل هذا الحديث على واقعنا المعاصِر فيه نظر؛ وذلك لأنَّ في الحديث أنَّه سيكون جُندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق؛ فأين جندُ اليمن والعِراق الآن؟! إلَّا إنْ كانوا يعنون فصيلًا بعينه، له وجود في هذه الدُّول الثَّلاث، فهذا تحكُّم لا دليل عليه. ولفظ الحديث عند أحمد: (سيصير الأمرُ إلى أنْ تكونوا جنودًا مجنَّدة)، يعني: الأمَّة بمجموعها، أو أعدادًا كثيرة لا يصحُّ أن تُنسب إلى نِسبة غير أنَّها: أمَّة الإسلام.
الوقفة الرابعة: القصورُ في فَهم أقوال العلماء
من الإشكالات التي تؤدِّي إلى مفاهيمَ وتصورات خاطئة لدى الشَّباب وقوعُ بعض مَن يكتب في مسائل الجهاد في فَهمٍ مغلوطٍ لأقوال العلماء، ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير القُرطبي: (ولو قارب العدوُّ دار الإسلام ولم يدخلوها، لزِمهم أيضًا الخروجُ إليه، حتى يظهرَ دِين الله، وتُحمَى البيضة، وتُحفظ الحوزة، ويُخزى العدوُّ، ولا خلاف في هذا) (8/ 151).
علَّق أحدُهم على هذا الكلام بقوله: فجَعَل الجهادَ فرضًا لازمًا إذا قارب العدوُّ ديار الإسلام مجرَّدَ مقاربة ولم يدخلها, وأوجب على المسلمين الخروجَ إليه، ونقَل عن العلماء أنَّه لا خلافَ في هذا.
وهذا فَهمٌ خاطئٌ لكلام القرطبي، فالقرطبيُّ رحمه الله قال: (ولو قارَب العدوُّ دارَ الإسلام ولم يدخلوها، لزِمهم أيضًا الخروجُ إليه)، ومعنى كلامه هذا: أنَّه لو قارب العدوُّ حدودَ بلد من بلاد المسلمين، فلا يَنتظر أهلُ هذا البلد حتى يداهمَهم العدوُّ، بل يخرجوا إليه ليقاتلوه، وهذا كما قال لا خِلافَ فيه، ولا يصحُّ أن يقال: إنَّ القرطبيَّ يقول أجمع المسلمون على وجوبِ نفير المسلمين بمجرَّد أن يقرُب العدوُّ من بلد من بلاد المسلمين!
ومن الأمثلة أيضًا:
قول بعضهم: إنَّ جمهور العلماء يرَون أنَّ جهاد الطلب فرضُ كفاية؛ إذا قام به مَن يكفي، سقَط الإثمُ عن الباقين، وإن لم يقُم به مَن يكفي، كانت الأمَّة آثِمةً بمجموعها, وإنَّ هناك من الصَّحابة والتابعين مَن يرى أنَّ جهاد الطلب فرضُ عينٍ على كلِّ قادر! فإذا كان لا يجوز تثبيط الناس عن النَّفير لجهاد الطلب؛ فكيف يجوز الإفتاءُ بعدم النَّفيرِ والجهادُ في الشَّام جهادُ دفْعٍ للصائل؟!
وهذا كلام ينقُصه كثيرٌ من الفقه والوعي؛ ففرْقٌ بين مَن يأخذ كلامًا اجتزأه من كتابٍ فقهيٍّ هنا أو هناك، وبيْن مَن ترسَّخ في العِلم، حتى عرَف مآخِذَه ومواردَه، وكيفية تنزيله على الواقع، وفرقٌ كبير بين المسائل النظريَّة العلميَّة، وبين تنزيلها بالفتوى على الوقائع؛ ولذا فأهلُ العِلم يشترطون للفتوى شروطًا لا تقتصر على قراءة كتُب الفقه وفَهمها. وعلماء المسلمين الذين أفتَوْا بوجوب جهاد الطَّلب، أوْجَبوه على القادِر لا على العاجز، فإذا كانت الأمَّةُ الآن بمجموعها غيرَ قادرةٍ على دفْع العدوِّ الصائل، وأعداء الإسلام أقوى منها عُدَّةً وعتادًا بمراحل؛ فكيف يُقال: إنَّهم يأثمون جميعًا إذا لم يَرفعوا عَلَمَ الجهاد، وهو جهادُ طلب وليس دفعًا؟! بل يقال: يجب عليهم أن يعدُّوا عُدَّتَه، ولكلِّ زمان عُدَّتُه وسلاحُه؛ هذا فيما يتعلَّق بجهاد الطلب، أمَّا جهاد الدَّفع فقد تقدَّم الكلام عليه، وسيأتي مزيدُ كلامٍ عنه في الوقفات التالية.
وقِسْ على ذلك نصوصًا أخرى للعلماء يُسيئون فَهمها، ثم يُنزلونها على الواقع.
الوقفة الخامسة: الحثُّ على الذَّهاب للجهاد؛ لتكثير سواد المجاهدين
من مسائل الجهاد التي يُثيرها البعض: مسألة تكثير سواد المجاهدين، فيقولون: إنَّ ذَهاب الشَّباب لساحات الجهاد فيه تكثيرٌ لسواد المجاهدين، ولو لم يكونوا بحاجةٍ إلى رِجال، وإنَّ هذا بحدِّ ذاته مطلبٌ شرعيٌّ صحَّ اعتبارُه عن الصَّحابة والتابعين! ويستشهدون بقول الزُّهريِّ: (خرَج سعيد بن المسيَّب إلى الغزو وقد ذهبتْ إحدى عينيه، فقيل له: إنَّك عليل؟! فقال: استنفرَ اللهُ الخفيفَ والثَّقيلَ؛ فإنْ لم يمكني الحرب، كثَّرتُ السَّواد، وحفِظتُ المتاع).
والردُّ على ذلك من وجوه:
الأوَّل: أنَّ كلامَنا هنا عن وجوب الجهاد وجوبًا عينيًّا أو كفائيًّا، أمَّا تكثير السَّواد، فهو أمرٌ تطوعيٌّ لا يقول بوجوبه أحدٌ من العلماء فيما أعلم.
الثاني: هذا كلامٌ لاستدرار العواطف، وإلَّا فهل من المنطق أن نحثَّ أصحابَ العِلل والعاهات على الاستنفار لساحات الجِهاد؛ لتكثير السَّواد، أو يُستنفرَ من الشباب من لا غناءَ له في المعارك والحرب؛ استنادًا إلى رواية عن تابعيٍّ، اللهُ أعلم بصحَّتها، والمجاهدون أنفسهم يعانون من نقْص في الطَّعام والشَّراب والكِساء والدواء، ولا يَزيدهم مثلُ هؤلاء إلَّا أعباءً وثقلًا؟!
الثالث: لا بدَّ في مِثل هذه الأمور من مراعاة المصالح والمفاسد، وعدم الانسياق خَلف العاطفة والحماس؛ فبعضُ الناس ربَّما كان سدُّه ثغرةً في التعليم أو الدَّعوة أو الاحتساب يفوق بكثيرٍ مثلَ هذا العمل، وبعضهم قد يكون في عدم ذَهابه درءُ مفسدةٍ قد تقع أعظمَ من المصلحة المرجوَّة من ذَهابه.
الوقفة السادسة: الخطأ في معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
كثيرًا ما يُردِّدون قولَ الحقِّ سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، مستشهدين به على أنَّ الله قد تكفَّل بهداية المجاهدين للحقِّ والصَّواب؛ وعليه: فالحقُّ ما قالوه، والباطل ما رَفضوه، وإنْ خالفوا بذلك كِبارَ أهل العلم.
وهذا الفَهم للآية غيرُ صحيح؛ فالآية ذات شِقَّين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}؛ فما معنى الجهاد في الله، وما معنى الهداية إلى سُبلِه؟
والكلام عن الشِّق الأوَّل منها كالتالي:
أولًا: ليعلم أنَّ هذه الآية مكيَّة، نزلت قبل فرْض الجهاد.
وثانيًا: الجهاد المقصود هنا هو مجاهدةُ النَّفس، وهو أعمُّ من القِتال، والقتال بلا شكٍّ داخلٌ فيه دخولًا أوليًّا؛ قال البغويُّ في تفسيره: (الذين جاهدوا المشركِين لنُصرة دِيننا).
وقال ابن القيِّم في ((الفوائد)) (ص: 59): (قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} علَّق سبحانه الهدايةَ بالجهاد، فأكْملُ الناس هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفرضُ الجهاد جهادُ النَّفْس، وجهادُ الهوى، وجهادُ الشَّيطان، وجهادُ الدُّنيا؛ فمَن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سُبُل رِضاه الموصلة إلى جنَّته، ومَن ترَك الجهاد، فاتَه من الهُدى بحسَب ما عطَّل من الجهاد، قال الجُنيد: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتوبة، لنهدينهم سُبُلَ الإخلاص. ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلَّا مَن جاهَد هذه الأعداءَ باطنًا، فمَن نُصِر عليها، نُصِر على عدوِّه، ومَن نُصِرت عليه، نُصِر عليه عدوُّه).
وقال ابنُ عطيَّة في تفسيره: (هي قبل الجهاد العُرفي، وإنَّما هو جهادٌ عامٌّ في دِين الله وطلبِ مرضاته).
وقال: (قال أبو سُليمان الدارانيُّ: ليس الجهادُ في هذه الآية قتالَ العدوِّ فقط، بل هو نصرُ الدِّين، والردُّ على المبطِلين، وقمْعُ الظالمين، وأعظمُه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ومنه مجاهدة النُّفوس في طاعة الله عزَّ وجلَّ).
أمَّا الشِّق الثاني من الآية: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، فلا علاقةَ له بالحقِّ والصَّواب في مسائل الدِّين من حيثُ العلمُ الشرعيُّ؛ ولم يقُل أحدٌ من المفسِّرين ذلك، فقد يكون المجاهدُ جاهلًا بالدِّين، لكن وقَع في قلْبه من حبِّ الله ورسولِه والجهادِ في سبيله ما جعَلَه يُضحِّي بنفْسه من أجْل دِينه، وهذا مُجمَلُ أقوال كبار المفسرِّين للآية:
قال الطبريُّ في تفسيره: (لنوفِّقنهم لإصابة الطَّريق المستقيمة، وذلك إصابةُ دِين الله الذي هو الإسلام، الذي بَعث اللهُ به محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم).
وقال البغويُّ في تفسيره: (لنثبتنَّهم على ما قاتلوا عليه) وقال: (قيل: المجاهدةُ هي الصَّبر على الطاعات؛ قال الحسن: أفضلُ الجِهاد مخالفةُ الهوى. وقال الفُضيل بن عِياض: والذين جاهدوا في طلَب العلم، لنهدينَّهم سُبُلَ العمل به. وقال سَهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السُّنَّة، لنهدينَّهم سُبُلَ الجَنَّة. ورُوي عن ابن عبَّاس: والذين جاهدوا في طاعتِنا، لنهدينَّهم سُبُلَ ثوابنا).
وقال ابن تيميَّة في ((جامع الرسائل والمسائل)) (6/82): ({وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال معاذ بن جبل: والبحثُ في العِلم جهاد).
وقال ابن كثير في تفسيره: (لنبصِّرنهم سُبُلنا، أي: طُرُقنا في الدُّنيا والآخرة).
وقال السعديُّ في تفسيره: (أي: الطُّرق الموصلة إلينا).
وقال الشنقيطيُّ في تفسيره: (يَهديهم إلى سُبل الخير والرَّشاد).
فليس في الآية أنَّ أهلَ الجهاد إذا اختلفوا مع غيرِهم من العلماء، فالحقُّ والصواب معهم، وأنَّ الجهاد سببٌ للبصيرة في العِلم، ومعرفة الراجِح من المرجوح. وليس كونُ المرء مجاهدًا بحجَّةٍ على المخالِف لا في باب الجهاد ولا في غيره من مسائل العِلم؛ كما هو مقتضى كلامِ أكابر المفسِّرين، فمسائلُ الجهاد بابٌ من أبواب الفقه الشرعيِّ، الذي مردُّه ومرجعه العلماء.
والخلاصة: أنَّ الله وعد المجاهدين بالهداية لسبيلِه، غير أنَّ الهدايةَ لا تستلزم الصوابَ في كلِّ مسألة، ولا العصمةَ من الخطأ. وممَّا يلحق بهذه الوقفة:
الوقفةُ السَّابعة: مقولة: (إذا اختلف الناسُ فاسألوا أهل الثَّغر)
كثيرٌ منهم إذا قيل له: إنَّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة أو النازلة، أتَوْك بمقولة ينسبونها للإمام أحمد وابن المبارك أنَّهما قالا: (إذا اختلف الناسُ، فانظروا ما عليه أهلُ الثَّغر - أو فاسألوا أهل الثَّغر - فإنَّ الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وتارةً ينسبونه لسُفيانَ بن عُيينةَ بلفظ: (إذا رأيتَ الناس قد اختلفوا، فعليك بالمجاهدين وأهل الثُّغور).
والردُّ على ذلك من وجوه:
الأوَّل: أنَّ هذا الأثَر لم يثبُت عن أحدٍ منهم بإسنادٍ صحيح، بل ليس هو من مقولة الإمام أحمد، أو ابن المبارك، وإنَّما نقلَتْه بعضُ كتُب التفسير وغيرها منسوبًا لسفيانَ بن عُيَينةَ بإسنادٍ ضعيف، بل إنَّ الإمام أحمدَ نقَل عنه تلميذُه أبو داود تعجُّبَه من أحكام أصدَرها بعضُ أهل الثغور في زمانه، فقال: قلت لأحمد: السَّبي يموتون في بلادِ الروم، قال: معهم آباؤهم؟ قلت: لا، قال: يُصلَّى عليهم؟ قلت: لم يقسموا ونحن في السريَّة؟ قال: إذا صاروا إلى المسلمين، وليس معهم آباؤُهم، فإنْ ماتوا يُصلَّى عليهم، وهم مسلمون، فقلتُ: وإن كان معهم آباؤهم؟ فقال: لا.
قال: قلت لأحمد: إنَّ أهل الثغر يُجبرونهم على الإسلام، وإنْ كان معهم آباؤهم. قال: لا أدْري.
وقال: سمعتُ أحمد مرَّةً أخرى وسُئل عن هذه المسألة، أو ذكرها، فقال: أهل الثَّغر يَصنعون في ذلك أشياءَ ما أدري ما هي! انظر: ((مسائل الإمام أحمد)) لأبي داود (ص246)، و((أحكام أهل الذمَّة)) لابن القيم (2/931).
العلماء الرَّبانيُّون ورَثةُ الأنبياء، وهم مصابيح الهُدى فيدياجيرالدُّجى، بهم يُرشَد الضالُّ، ويُهدَى الحيران، رفَعهم الله بالعِلم، وزيَّنهم بالحِلْم، وهم الذين أمَر الله بردِّ المتنازَع فيه من الأحكام إليهم، ومع ذلك فهُم غيرُ معصومين؛ فقد يُخطئ الواحد منهم، والاثنان، والثلاثة، وأكثر، وفي هذه الحالة لا نَقبل منهم خطأهم ولا نتَّبعهم فيه، لكن أن تجتمعَ كلمتُهم، أو جمهورهم في مسألةٍ ما - وقد تكون من النَّوازل - ثمَّ لا يُكترَثَ لها، ويظلَّ فِئامٌ من الناس لا يُلقون لها بالًا، ولا يستمعون إليهم، ويصرُّون على التعصُّب لأقوال مَن يُوافق مراداتهم، مع تخوينٍ ظاهرٍ لعامَّة أهل العلم؛ فهذا عينُ الحِزبيَّة التي لا نرضاها لشباب هذه الأمَّة. ورأيُ جمهور أهل العلم الصَّادقين النَّاصحين في نازلةٍ من النوازل، لا شكَّ أنَّه الأقربُ للصَّواب، أمَّا اللَّهْث وراء الفتاوى الحماسيَّة العاطفيَّة - التي تفتقِد إلى كثيرٍ من العِلم والفِقه بالواقع، ومراعاةِ مآلات الأمور، والحِلم والأناة - فهو من الجَهل والتعصُّب الذي ابتُليت به الأمَّة قديمًا وحديثًا.
وممَّا يؤدِّي إلى مِثل هذا الاحتقان والنفرة من مشايخ العِلم والحِكمة - التي ينبغي أن يقِف عندها الشباب وقفةَ إنصافٍ - ما يُردِّدُه بعض المهتمِّين بالجهاد من أنَّ هؤلاء المشايخَ يسعَون لإسقاط رموز الجهاد، ويُسفِّهونهم، ويحقِّرون خِطابهم، وأنَّهم يَسعَون لإسقاط الجهاد نفْسه، وهذا لعمرُ الله افتراءٌ على المشايخ، والأصل: أنَّ العلماء والدُّعاة الربانيِّين يُعظِّمون الجهاد، ويَحفظون لأهله قدْرَهم، لكن ليس معنى ذلك أن يسكُتوا عن غلوٍّ أو أخطاءٍ في اجتهاداتِ بعض المجاهدين؛ فالله قد عاتَب خيرَ هذه الأمَّة - صحابةَ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ورضِي عنهم وأرضاهم - وهُم في ساحة المعركة، فقال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (نزلتْ فينا يومَ أُحُد)؛ فمِن الخطأ أن يُعدَّ الحديث عن أخطاء المجاهدين وغلوِّ بعضِهم إسقاطًا لرموز الجهاد، لكن بعض مَن يردِّد ذلك للأسف ينظُر إلى الجهاد نظرةً حزبيَّةً ضيِّقة، فالجهاد عنده هو جهادُ فصيلٍ بعينه، ورموزُ الجهاد هم فلانٌ وفلان؛ فمَن حذَّر من هذا الفصيل أو أخطاءِ بعضِ رموزه، فقد أسقط الجهادَ كلَّه، حتَّى لو دعم الفصائل الأخرى، بل لو شارَك فيها بنفْسه! وهذا من تحجيمِ الجهاد وتقزيمه في فصيلٍ بعينه، وساحاتُ الجهاد لا تتحمَّل مِثلَ هذه الحزبيات؛ {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، والعجيبُ أنَّك تجد بعضهم إذا أيَّد أحدُ العلماء أو طلابُ العلم الكبار حركةً جهاديَّةً صادقةً غير حركتهم، أو أثنى عليها، اتَّهموه بالحزبيَّة!
الوقفة الثَّانية: تنزيل أحكام فرْض العين على الواقِع المعاصر
من مسائل الجِهاد التي تحتاج إلى وقفة تأمُّل: الحُكم بأنَّ الجهاد فرضُ عينٍ في بلد معيَّن، وتضليل مَن لم يقُل بذلك، وتجهيله واتِّهامه؛ فتجدُ بعضَ المجاهدين أو مَن يتبنَّى رؤيتَهم يحشُدُ عشراتِ الأقوال التي تنصُّ على أنَّ العدوَّ إذا داهم بلدًا مسلمًا، وَجَب على أهله الدِّفاعُ عنه، ورفْعُ راية الجهاد ضدَّ العدوِّ، فإنْ لم يستطعْ، فيجب على الأمَّة كلِّها أن تهبَّ لنُصرتهم، وإلَّا أثِموا جميعًا.
وهذا الحُكم من الناحية العِلميَّة التنظيريَّة صحيح - وإن كان بحاجة إلى تفصيل ليس هذا محلَّه - لكن تطبيقهم له ينقُصه الكثيرُ من الفقه والبصيرة؛ فالمسلمون اليوم في ضَعْفٍ شديد، وأعداءُ الداخل من الليبراليِّين والعلمانيِّين والرافضة يُخطِّطون لتدمير ثوابت الأمَّة قبل أعداء الخارج، وأكثرُ بلاد المسلمين فيها جراحٌ ومآسٍ؛ في فلسطين، والعراق، وسوريا، والصومال، وأفغانستان، وكشمير، والفلبين، وبورما وغيرها، وفي كثيرٍ منها حركاتٌ جهاديَّة؛ فهل يصحُّ أن نقول لجميع الناس: اذهبوا واترُكوا ما أنتم فيه من عِلمٍ وتعليم، ودَعوةٍ، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكَر، وجهادٍ باللِّسان، ومدافعةٍ للباطل، وتوجَّهوا إلى البلد الفلانيِّ، واتركوا بلدانَكم يعبَث بها العلمانيُّون والتغريبيُّون؟! أيُّ عاقل هذا الذي يدْعو إلى إخلاء بلاد المسلمين من أهل العلم، والآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والذَّابِّين عن حياض الإسلام؟! فضلًا عن أنَّ هذا البلد المنكوب من بلاد المسلمين يُعاني أهلُه من نقصٍ في الطَّعام والشَّراب، والدَّواء، والكِساء، والمسكَن، وقبل كلِّ ذلك يُعاني من نقْص في السِّلاح، ولو ذهبت أعدادٌ كبيرة، لكانت عبئًا عليهم!
وقد يقول قائلٌ:نحن لا ندعو إلى ذَهاب جميع النَّاس، نحن ندعو إلى ذَهاب مجموعةٍ منهم، حتى تحصُل الكفاية.
فيُقال لهم: وكيف نعرِف حُصولَ الكفاية؟ هبْ أنَّ عشرةً من الكتائب الجهاديَّة أقرَّت بحصول الكِفاية، فسيأتيك مَن يقول: هناك كتائبُ تقول: إنَّها ما زالت بحاجة ولم تحصُل لهم الكِفاية! وهكذا سيقولون لو ذهب عشراتٌ أو مئاتٌ أو آلاف؛ فهل من نهاية لهذا الأمر؟!
وقد يقول قائلهم: الكفاية تحصُل بهزيمة العدوِّ، وفي الحالة السوريَّة بسقوط نِظام الأسد.
فيُقال لهم: فهل حصَلت الكفايةُ في أفغانستان بسقوط الروس؟! وهل حصلت في العراق بخروج الأمريكان؟! وهل أقيمت فيهما دولة الإسلام؟! ويُقال مثل ذلك عن الصُّومال، وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة.
فهل سنظلُّ نوجب على جميع الناس ونستنفرهم للذهاب للقتال هناك؟! وما يُقال عن الذَّهاب للقتال، يُقال عن العلماء وطلبة العِلم والأطبَّاء وغيرهم، فهل المطلوب أن نستنفر كلَّ هؤلاء؛ ليخرجوا من بلدانهم ويتركوها فريسةً للأعداء، ويذهبوا إلى ساحات القتال؛ هل يقول ذلك عاقلٌ، فضلًا عن عالِم يَفقه الدِّين، ويفقه الواقع؟!
إنَّ مسائلَ العِلم الكِبار، والمسائل التي تمسُّ الأمَّةَ بعامَّة تحتاج إلى نظرٍ ثاقب، وتمامِ علمٍ وتجرِبة، ولا يتمُّ معالجتها من خلال الحماس، ولا بالنَّظر من زاوية واحدة فحسبُ، دون اعتبار للمآلات. وهذا مردُّه إلى أهل العِلم الصَّادقين الرَّاسخين فيه. ومخالِفُ ذلك لا يضرُّ العلمَ وأهلَه شيئًا، ولكنه يُعرِّض نفسه للمهالك في غير ما سداد؛ إذ يتنكَّب ما أمر الله باتِّباعه من اتِّباع أهل العِلم إلى اتِّباع ما يَهوَى ويشتهي، وإن كان ذلك في بابٍ من أبواب الطاعات، والله المستعان.
فالواجبات تتزاحَم، والكفايةُ لم تحصُل في الجميع، لا في جهاد السِّنان، ولا في جهاد القَلم والبيان، من علمٍ ودعوةٍ واحتساب، فيبقى تقديرُ الأمور بحسب المصالح والمفاسد، ومرجعه إلى أهل العلم الربَّانيين الذين لا يُهمِلون هذا، ولا يهمِّشون ذاك.
الوقفة الثالثة: الخَطأ في تنزيل أحاديث الفِتن والملاحِم على الواقع
من أخطاء مَن يكتب في مسائل الجهاد: تنزيلُ أحاديث النُّبوءات التي أخبر فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا سيكون في آخِر الزَّمان من فتنٍ وملاحِمَ على الواقع المعاصر، بل أحيانًا على فَصيلٍ جهاديٍّ بعينه، بلا علمٍ ولا بيِّنةٍ ولا بصيرة، وبهذا يُغرَّر بعضُ الشباب، وأكتفي بذِكر حديثين فقط، لطالما كُرِّرا في الأدبيَّات المتعلِّقة بالجهاد ممَّا يُطرح في السنوات الأخيرة:
الحديث الأوَّل: حديث: ((إذا أقبلت الرَّايات السُّود من المشرِق، والرَّايات الصُّفر من المغرِب، حتى يلتقوا في سُرَّة الشَّام - يعني دمشق - فهنالك البَلاء، هنالك البلاء)).
والحديث الثاني: حديث ابنِ حوالةَ: ((سيصير الأمرُ إلى أن تكون جنودٌ مجنَّدة: جندٌ بالشَّام، وجندٌ باليمن، وجُندٌ بالعراق، فقال ابنُ حوالة: خِر لي يا رسولَ الله، إنْ أدركتُ ذلك، فقال: عليك بالشَّام؛ فإنَّها خِيرةُ الله من أرضه، يَجتبي إليها خِيرتَه من عباده، فأمَّا إنْ أبيتم، فعليكم بيمنكم، واسقوا من غُدرِكم؛ فإنَّ الله توكَّل لي بالشَّام وأهله)).
وقبل الردِّ على الفَهم الخاطئ للحديثين، أودُّ التنبيه على خُطورة تنزيل هذا النَّوع من الأحاديث على واقعٍ بعينه، وأنَّ من أهمِّ الضوابط في ذلك أن يكون الحديثُ صحيحًا، وأن يكون هذا التنزيلُ على الواقع متيقَّنًا، أو يغلِب على الظنِّ صوابُه، وقال به الراسخون في العِلم، وألَّا يكون أمرًا ظنيًّا متوَهَّمًا، ولا أنْ يفسِّره كلُّ مَن شاء بظنِّه وهواه تفسيرًا بعيدًا عن دَلالته.
أمَّا حديث الرايات السُّود، فهو حديثٌ ضعيف، أخرجه نُعيم بن حمَّاد في كتاب ((الفتن)) (1/272)، وقد تفرَّد به، والتحقيق: أنَّ ما تفرَّد به في كتابه هذا لا تقوم به حُجَّة؛ قال مسلمة بن قاسم كما في ((تهذيب التهذيب)) (10/426): (له أحاديثُ منكَرة في الملاحم انفرَد بها)، وقال الذهبيُّ في ((السير)) (9/27): (لا يجوز لأحدٍ أن يحتجَّ به، وقد صنَّف كتاب الفتن فأتى فيه بعجائبَ ومناكير).
وعليه؛ فلا يصحُّ الاعتمادُ على هذا الحديث، ولا اعتقادُ ما جاء فيه، فضلًا عن تنزيله على واقعٍ معيَّن؛ فإنَّ دليلَه لم يثبت أصلًا حتى يُبنَى عليه أيُّ اعتقاد، أو أيَّةُ تصوُّراتٍ أو أحكام.
وأمَّا حديث ابن حَوالة، فهو حديث صحيح، ولا شكَّ أنَّ الشَّام - بحدودها المعروفة في كتُب الأقاليم والبلدان، وليس سوريا فقط كما قد يتبادَر إلى الذهن - بلدٌ مبارَك، وردتْ في فضله أحاديثُ كثيرةٌ، منها هذا الحديث، وفيه أنَّ الله توكَّل بالشام، وأنَّها خِيرةُ الله من أرضه، لكن تنزيل هذا الحديث على واقعنا المعاصِر فيه نظر؛ وذلك لأنَّ في الحديث أنَّه سيكون جُندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق؛ فأين جندُ اليمن والعِراق الآن؟! إلَّا إنْ كانوا يعنون فصيلًا بعينه، له وجود في هذه الدُّول الثَّلاث، فهذا تحكُّم لا دليل عليه. ولفظ الحديث عند أحمد: (سيصير الأمرُ إلى أنْ تكونوا جنودًا مجنَّدة)، يعني: الأمَّة بمجموعها، أو أعدادًا كثيرة لا يصحُّ أن تُنسب إلى نِسبة غير أنَّها: أمَّة الإسلام.
الوقفة الرابعة: القصورُ في فَهم أقوال العلماء
من الإشكالات التي تؤدِّي إلى مفاهيمَ وتصورات خاطئة لدى الشَّباب وقوعُ بعض مَن يكتب في مسائل الجهاد في فَهمٍ مغلوطٍ لأقوال العلماء، ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير القُرطبي: (ولو قارب العدوُّ دار الإسلام ولم يدخلوها، لزِمهم أيضًا الخروجُ إليه، حتى يظهرَ دِين الله، وتُحمَى البيضة، وتُحفظ الحوزة، ويُخزى العدوُّ، ولا خلاف في هذا) (8/ 151).
علَّق أحدُهم على هذا الكلام بقوله: فجَعَل الجهادَ فرضًا لازمًا إذا قارب العدوُّ ديار الإسلام مجرَّدَ مقاربة ولم يدخلها, وأوجب على المسلمين الخروجَ إليه، ونقَل عن العلماء أنَّه لا خلافَ في هذا.
وهذا فَهمٌ خاطئٌ لكلام القرطبي، فالقرطبيُّ رحمه الله قال: (ولو قارَب العدوُّ دارَ الإسلام ولم يدخلوها، لزِمهم أيضًا الخروجُ إليه)، ومعنى كلامه هذا: أنَّه لو قارب العدوُّ حدودَ بلد من بلاد المسلمين، فلا يَنتظر أهلُ هذا البلد حتى يداهمَهم العدوُّ، بل يخرجوا إليه ليقاتلوه، وهذا كما قال لا خِلافَ فيه، ولا يصحُّ أن يقال: إنَّ القرطبيَّ يقول أجمع المسلمون على وجوبِ نفير المسلمين بمجرَّد أن يقرُب العدوُّ من بلد من بلاد المسلمين!
ومن الأمثلة أيضًا:
قول بعضهم: إنَّ جمهور العلماء يرَون أنَّ جهاد الطلب فرضُ كفاية؛ إذا قام به مَن يكفي، سقَط الإثمُ عن الباقين، وإن لم يقُم به مَن يكفي، كانت الأمَّة آثِمةً بمجموعها, وإنَّ هناك من الصَّحابة والتابعين مَن يرى أنَّ جهاد الطلب فرضُ عينٍ على كلِّ قادر! فإذا كان لا يجوز تثبيط الناس عن النَّفير لجهاد الطلب؛ فكيف يجوز الإفتاءُ بعدم النَّفيرِ والجهادُ في الشَّام جهادُ دفْعٍ للصائل؟!
وهذا كلام ينقُصه كثيرٌ من الفقه والوعي؛ ففرْقٌ بين مَن يأخذ كلامًا اجتزأه من كتابٍ فقهيٍّ هنا أو هناك، وبيْن مَن ترسَّخ في العِلم، حتى عرَف مآخِذَه ومواردَه، وكيفية تنزيله على الواقع، وفرقٌ كبير بين المسائل النظريَّة العلميَّة، وبين تنزيلها بالفتوى على الوقائع؛ ولذا فأهلُ العِلم يشترطون للفتوى شروطًا لا تقتصر على قراءة كتُب الفقه وفَهمها. وعلماء المسلمين الذين أفتَوْا بوجوب جهاد الطَّلب، أوْجَبوه على القادِر لا على العاجز، فإذا كانت الأمَّةُ الآن بمجموعها غيرَ قادرةٍ على دفْع العدوِّ الصائل، وأعداء الإسلام أقوى منها عُدَّةً وعتادًا بمراحل؛ فكيف يُقال: إنَّهم يأثمون جميعًا إذا لم يَرفعوا عَلَمَ الجهاد، وهو جهادُ طلب وليس دفعًا؟! بل يقال: يجب عليهم أن يعدُّوا عُدَّتَه، ولكلِّ زمان عُدَّتُه وسلاحُه؛ هذا فيما يتعلَّق بجهاد الطلب، أمَّا جهاد الدَّفع فقد تقدَّم الكلام عليه، وسيأتي مزيدُ كلامٍ عنه في الوقفات التالية.
وقِسْ على ذلك نصوصًا أخرى للعلماء يُسيئون فَهمها، ثم يُنزلونها على الواقع.
الوقفة الخامسة: الحثُّ على الذَّهاب للجهاد؛ لتكثير سواد المجاهدين
من مسائل الجهاد التي يُثيرها البعض: مسألة تكثير سواد المجاهدين، فيقولون: إنَّ ذَهاب الشَّباب لساحات الجهاد فيه تكثيرٌ لسواد المجاهدين، ولو لم يكونوا بحاجةٍ إلى رِجال، وإنَّ هذا بحدِّ ذاته مطلبٌ شرعيٌّ صحَّ اعتبارُه عن الصَّحابة والتابعين! ويستشهدون بقول الزُّهريِّ: (خرَج سعيد بن المسيَّب إلى الغزو وقد ذهبتْ إحدى عينيه، فقيل له: إنَّك عليل؟! فقال: استنفرَ اللهُ الخفيفَ والثَّقيلَ؛ فإنْ لم يمكني الحرب، كثَّرتُ السَّواد، وحفِظتُ المتاع).
والردُّ على ذلك من وجوه:
الأوَّل: أنَّ كلامَنا هنا عن وجوب الجهاد وجوبًا عينيًّا أو كفائيًّا، أمَّا تكثير السَّواد، فهو أمرٌ تطوعيٌّ لا يقول بوجوبه أحدٌ من العلماء فيما أعلم.
الثاني: هذا كلامٌ لاستدرار العواطف، وإلَّا فهل من المنطق أن نحثَّ أصحابَ العِلل والعاهات على الاستنفار لساحات الجِهاد؛ لتكثير السَّواد، أو يُستنفرَ من الشباب من لا غناءَ له في المعارك والحرب؛ استنادًا إلى رواية عن تابعيٍّ، اللهُ أعلم بصحَّتها، والمجاهدون أنفسهم يعانون من نقْص في الطَّعام والشَّراب والكِساء والدواء، ولا يَزيدهم مثلُ هؤلاء إلَّا أعباءً وثقلًا؟!
الثالث: لا بدَّ في مِثل هذه الأمور من مراعاة المصالح والمفاسد، وعدم الانسياق خَلف العاطفة والحماس؛ فبعضُ الناس ربَّما كان سدُّه ثغرةً في التعليم أو الدَّعوة أو الاحتساب يفوق بكثيرٍ مثلَ هذا العمل، وبعضهم قد يكون في عدم ذَهابه درءُ مفسدةٍ قد تقع أعظمَ من المصلحة المرجوَّة من ذَهابه.
الوقفة السادسة: الخطأ في معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}
كثيرًا ما يُردِّدون قولَ الحقِّ سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، مستشهدين به على أنَّ الله قد تكفَّل بهداية المجاهدين للحقِّ والصَّواب؛ وعليه: فالحقُّ ما قالوه، والباطل ما رَفضوه، وإنْ خالفوا بذلك كِبارَ أهل العلم.
وهذا الفَهم للآية غيرُ صحيح؛ فالآية ذات شِقَّين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}؛ فما معنى الجهاد في الله، وما معنى الهداية إلى سُبلِه؟
والكلام عن الشِّق الأوَّل منها كالتالي:
أولًا: ليعلم أنَّ هذه الآية مكيَّة، نزلت قبل فرْض الجهاد.
وثانيًا: الجهاد المقصود هنا هو مجاهدةُ النَّفس، وهو أعمُّ من القِتال، والقتال بلا شكٍّ داخلٌ فيه دخولًا أوليًّا؛ قال البغويُّ في تفسيره: (الذين جاهدوا المشركِين لنُصرة دِيننا).
وقال ابن القيِّم في ((الفوائد)) (ص: 59): (قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} علَّق سبحانه الهدايةَ بالجهاد، فأكْملُ الناس هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفرضُ الجهاد جهادُ النَّفْس، وجهادُ الهوى، وجهادُ الشَّيطان، وجهادُ الدُّنيا؛ فمَن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سُبُل رِضاه الموصلة إلى جنَّته، ومَن ترَك الجهاد، فاتَه من الهُدى بحسَب ما عطَّل من الجهاد، قال الجُنيد: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتوبة، لنهدينهم سُبُلَ الإخلاص. ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلَّا مَن جاهَد هذه الأعداءَ باطنًا، فمَن نُصِر عليها، نُصِر على عدوِّه، ومَن نُصِرت عليه، نُصِر عليه عدوُّه).
وقال ابنُ عطيَّة في تفسيره: (هي قبل الجهاد العُرفي، وإنَّما هو جهادٌ عامٌّ في دِين الله وطلبِ مرضاته).
وقال: (قال أبو سُليمان الدارانيُّ: ليس الجهادُ في هذه الآية قتالَ العدوِّ فقط، بل هو نصرُ الدِّين، والردُّ على المبطِلين، وقمْعُ الظالمين، وأعظمُه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ومنه مجاهدة النُّفوس في طاعة الله عزَّ وجلَّ).
أمَّا الشِّق الثاني من الآية: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، فلا علاقةَ له بالحقِّ والصَّواب في مسائل الدِّين من حيثُ العلمُ الشرعيُّ؛ ولم يقُل أحدٌ من المفسِّرين ذلك، فقد يكون المجاهدُ جاهلًا بالدِّين، لكن وقَع في قلْبه من حبِّ الله ورسولِه والجهادِ في سبيله ما جعَلَه يُضحِّي بنفْسه من أجْل دِينه، وهذا مُجمَلُ أقوال كبار المفسرِّين للآية:
قال الطبريُّ في تفسيره: (لنوفِّقنهم لإصابة الطَّريق المستقيمة، وذلك إصابةُ دِين الله الذي هو الإسلام، الذي بَعث اللهُ به محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم).
وقال البغويُّ في تفسيره: (لنثبتنَّهم على ما قاتلوا عليه) وقال: (قيل: المجاهدةُ هي الصَّبر على الطاعات؛ قال الحسن: أفضلُ الجِهاد مخالفةُ الهوى. وقال الفُضيل بن عِياض: والذين جاهدوا في طلَب العلم، لنهدينَّهم سُبُلَ العمل به. وقال سَهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السُّنَّة، لنهدينَّهم سُبُلَ الجَنَّة. ورُوي عن ابن عبَّاس: والذين جاهدوا في طاعتِنا، لنهدينَّهم سُبُلَ ثوابنا).
وقال ابن تيميَّة في ((جامع الرسائل والمسائل)) (6/82): ({وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال معاذ بن جبل: والبحثُ في العِلم جهاد).
وقال ابن كثير في تفسيره: (لنبصِّرنهم سُبُلنا، أي: طُرُقنا في الدُّنيا والآخرة).
وقال السعديُّ في تفسيره: (أي: الطُّرق الموصلة إلينا).
وقال الشنقيطيُّ في تفسيره: (يَهديهم إلى سُبل الخير والرَّشاد).
فليس في الآية أنَّ أهلَ الجهاد إذا اختلفوا مع غيرِهم من العلماء، فالحقُّ والصواب معهم، وأنَّ الجهاد سببٌ للبصيرة في العِلم، ومعرفة الراجِح من المرجوح. وليس كونُ المرء مجاهدًا بحجَّةٍ على المخالِف لا في باب الجهاد ولا في غيره من مسائل العِلم؛ كما هو مقتضى كلامِ أكابر المفسِّرين، فمسائلُ الجهاد بابٌ من أبواب الفقه الشرعيِّ، الذي مردُّه ومرجعه العلماء.
والخلاصة: أنَّ الله وعد المجاهدين بالهداية لسبيلِه، غير أنَّ الهدايةَ لا تستلزم الصوابَ في كلِّ مسألة، ولا العصمةَ من الخطأ. وممَّا يلحق بهذه الوقفة:
الوقفةُ السَّابعة: مقولة: (إذا اختلف الناسُ فاسألوا أهل الثَّغر)
كثيرٌ منهم إذا قيل له: إنَّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة أو النازلة، أتَوْك بمقولة ينسبونها للإمام أحمد وابن المبارك أنَّهما قالا: (إذا اختلف الناسُ، فانظروا ما عليه أهلُ الثَّغر - أو فاسألوا أهل الثَّغر - فإنَّ الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وتارةً ينسبونه لسُفيانَ بن عُيينةَ بلفظ: (إذا رأيتَ الناس قد اختلفوا، فعليك بالمجاهدين وأهل الثُّغور).
والردُّ على ذلك من وجوه:
الأوَّل: أنَّ هذا الأثَر لم يثبُت عن أحدٍ منهم بإسنادٍ صحيح، بل ليس هو من مقولة الإمام أحمد، أو ابن المبارك، وإنَّما نقلَتْه بعضُ كتُب التفسير وغيرها منسوبًا لسفيانَ بن عُيَينةَ بإسنادٍ ضعيف، بل إنَّ الإمام أحمدَ نقَل عنه تلميذُه أبو داود تعجُّبَه من أحكام أصدَرها بعضُ أهل الثغور في زمانه، فقال: قلت لأحمد: السَّبي يموتون في بلادِ الروم، قال: معهم آباؤهم؟ قلت: لا، قال: يُصلَّى عليهم؟ قلت: لم يقسموا ونحن في السريَّة؟ قال: إذا صاروا إلى المسلمين، وليس معهم آباؤُهم، فإنْ ماتوا يُصلَّى عليهم، وهم مسلمون، فقلتُ: وإن كان معهم آباؤهم؟ فقال: لا.
قال: قلت لأحمد: إنَّ أهل الثغر يُجبرونهم على الإسلام، وإنْ كان معهم آباؤهم. قال: لا أدْري.
وقال: سمعتُ أحمد مرَّةً أخرى وسُئل عن هذه المسألة، أو ذكرها، فقال: أهل الثَّغر يَصنعون في ذلك أشياءَ ما أدري ما هي! انظر: ((مسائل الإمام أحمد)) لأبي داود (ص246)، و((أحكام أهل الذمَّة)) لابن القيم (2/931).