[size=32]إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
وبعد:
ففي ظلالِ مشيِ خيرِ من وطِئَ الثرى -صلى الله عليه وسلم- نمضي، لنرى معالِمَ طريقه التي خطها لنفسه ولمن بعده من أمته، نعم ربما هي مجردُ مِشية مادية على أرضٍ مدها ربي مدًّا كان يمشيها صلى الله عليه وسلم، لكنها قد تكشف عن كثيرٍ من رموز قد تفك لنا شفرات لطالما عجَزنا عن استيعابها، وعلامات لطريق النور الذي رسمه وأهداه لنا صلى الله عليه وسلم.
ولما كان خلقه القرآن، ولما كان دومًا مثالًا حيًّا على أرض الواقع، فقد كان ثمة تطابق بين سلوكه وسماته الحالية وبين منهجه في الحياة صلى الله عليه وسلم وغاياته الكبرى ومهماته الخطيرة، وكلامي لا يقصد به التركيز على ظاهر هديه صلى الله عليه وسلم دون الباطن، بل هو دليلٌ عليه، وحلقة متصلة وبرنامج متكامل ينسجم فيه الهدي الظاهر والسمات العامة مع الأخلاق والسلوك وأعمال القلوب لتتلاحم مشيته الحالية مع خطى طريق الكفاح الصراح الممتد عبر العصر النبوي إلى أن تتصلَ لَأْلآتُ عبقِه الزاكي في الفوز الكبير والمقام المحمود.
ولقد كان هديُه في مشيه صلى الله عليه وسلم مليئًا بدلالات ومعانٍ قال فيها الشاعر:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينة
كانت بديهتُه تُنبيك بالخبرِ
صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
وينبغي لنا قبل الشروع في هدي مشيه صلى الله عليه وسلم توضيحُ أهمية المشي ومدى ارتباطه بشخصية الإنسان.
المشي عند علماء النفس والفراسة:
فعلماء النفس والفراسة يقولون: إن مشي المرء يعطي مدلولا على شخصيته، بل يعدونه ميزانًا للاستقرار والاتزان النفسي.
وطريقة المشي تعطي الانطباعَ الأول الذي يظل شديدَ الأهمية في العلاقات الإنسانية، فلو مشى الشخص بتثاقل وكأنه يجر رجليه، محنيًّا ظهرُه، كان هذا دليلًا على الانطواء والكآبة، وبعكسه لو مشى معتدلَ القامة بخطى ثابتة، فذلك دليل على اتزان الشخص واستقراره النفسي وقوته النفسية..
المشي في لغة العرب:
ولقد حظي المشي في لغة العرب في الجاهلية بالكثير من الألفاظ والمترادفات الثرية التي تدل على اهتمامهم بالمشيوتَفَهُّمهم للدلالات والمعاني التي ترتبط بطريقة كل مشية، فكان منها الوهص (المشي شديد الوطء)، والرهو (المشي السهل المستقيم)، والجدف (الإسراع في المشي مع سرعة تحريك اليدين) والدلف (مشي مع تقارب الخطى) والبيقرة (أن يمشي مسرعًا مع طأطأة الرأس)، والزياف (أن يمشي في سرعة مع تمايل وكأنه سيستدير)[1].
ووصف الأعشى محبوبته بالرفاهية والتبختر قائلا:
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها
تمشي الهوينى كما يمشي الوَجِي الوَجِلُ
(أو الوَحِلُ) أي تمشي بتريث كما يمشي الخائف المترقب أو أنها تمشي بتريث لأنها كمن يمشي على الطين الرقيق، وهنا ينعتها بالدلال في مشتها.
دلالات المشي في القرآن والحديث:
وفي القرآن الكريم دلالات تفصح عن العلاقة بين الصفات الإنسانية ومشي المرء وما يخلف ذلك من مؤثرات إما بالخير وإما الشر على الإنسان.
• ففي قول الله تبارك وتعالى:﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18] دليل على ذم الخيلاء والمرح والعجب وذلك من خلال ذم هيئة المشية.
• وفي قوله عز وجل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25] دليل على صفة الحياء والتأدب وغض البصر، كل هذا لم يظهر إلا بذكر هيئة المشي التي كانت عليها ابنةُ شعيب في سؤلها لموسى عليه السلام، وكما قال ابنُ كثير في تفسيره: إنه مشي الحرائر، وكأنه يبين الفرق بينه وبين مشي البغايا والإماء المائلات المميلات كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جلَّى ذلك قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع خَرَّاجة ولاجة". هذا إسناد صحيح. [تفسير ابن كثير سورة القصص].
• ولقد جاءت المشية أحيانًا في السياقات القرآنية لتدل على خبث الفعلة المصاحبة للمشية وقبحها؛ فقال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].
وصفة المشي هنا إن كانت مادية فالمقصود بها الحركة والسعي وراء النميمة كما فسرها ابن كثير: (المشاء بنميم: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة).
أو أنها مشية معنوية كما فسرها السعدي في قوله (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء. وفيها قال الراغب الأصفهاني: (ويُكْنَى بالمشي عن النميمة)، وفسرها البغوي بقوله: (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.
ويوضحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إليالمشاؤونبالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العنت" [2].
• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مشى أبو دجانة متبخترًا أمامه في غزوة أحد: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) [3] لأن هذه المشية المفعمة بالكبر والفخر تستعمل لإذلال أعداء الله وإرهابهم.
• ولقد كانت كذلك مشية (الرمل) في الحج، رسالة إعلامية قصيرة فعّالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مشركي مكة تبلغهم قوة النبي وأصحابه ومعافاتهم من السقم وصحتهم البدنية وأنهم أُسودٌ إن دعا داعي الجهاد.
ولما كانت هناك مشيات يبغضها الله عز وجل، وهناك أخرى يحبها الله عز وجل، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يلحظون مشية النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتنون بذلك، ويقتدون بها؛ فأم المؤمنين عائشة تقول في مشية فاطمة سيدة نساء المؤمنين رضي الله عنهما: (فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، ولا والله ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
فكيف كانت إذًا مشيته بأبي هو وأمي وما مدلولاتها؟
في ظلال مشيه صلى الله عليه وسلم:
وقد اعتنيت في هذا المبحث ببيان النص في حديث هند ابن أبي هالة رضي الله عنه لابن أخته الحسن رضي الله عنه واصفًا مشي النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحمله لنا من دلالات[4] تفصح عن محامد صفاته صلى الله عليه وسلم، وتطابقها مع خلقه ومنهجه، وذلك لتيسير الوصول إليها، والاقتداء بها، والاستفادة العملية منها، وذلك بعيدًا عن النظر في بلاغة الألفاظ في حد ذاتها؛ إذ ليس موضع البحث.
1- علو الهمة والمثابرة في العمل مع التواضع:صفتان عظيمتان قلما اجتمعا معا، فكثيرٌ ممن أهمتهم همتهم وطموحاتهم المستقبلية تلوثوا بغثيان الكبر والاغترار والعجب، وكثير ممن أهمهم التواضع تراهم أفرطوا في التذلل إلى حد الزهد في طلب الهمم، فما عزموا على معالجة أنفسهم من داء العجب بالتواضع إلا وأصابوها بداء العزوف عن طلب الهمة والاستزادة من الطموح ومعالي الأمور، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني لنا مثالاً جديدًا وسطًا بين هذا وذاك، يتضح ذلك في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم؛ يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: (كان إذا زال زال قَلِعا)
المعنى اللغوي: (الزَّوَّال: الذي يتحرَّك في مشيه كثيرًا وما يقطعه من المسافة قليل) [لسان العرب]، وهو دليل المثابرة في نيل الأمور، (وقَلِعا: معناه أنه إذا مشي وتَقَلَّعَ في مَشْيَتِه: مشَى كأَنه يَنْحَدِرُ، أَراد قوّة مشيه، وأَنه كان يرفع رجليه من الأَرض إِذا مشى رَفْعًا بائنًا بقوّة، لا كمن يَمْشِي اخْتِيالًا وتَنَعُّمًا، ويُقارِبُ خُطاه، فإِنّ ذلك من مَشْي النساء ويُوصَفْنَ به، وقال الأزهريّ: يقال هو كقوله: كأَنما يَنْحَطُّ في صَبَبٍ، وقال ابن الأَثير: الانْحِدارُ من الصَّبَبِ، والتَّقَلُّعُ من الأَرض قريب بعضه من بعض، أَراد أَنه كان يستعمل التَّثَبُّّت ولا يَبِينُ منه في هذه الحال اسْتعجال ومُبادرة شديدة) [لسان العرب].
وفي غريب الحديث ("إذا زال زال قلعًا" هو بمنزلة قول علي عليه السلام في وصفه: "إذا مشى تقلع") [غريب الحديث لابن قتيبة]، (التقلع:القوة في المشي مع تتابع الخطى) [دلائل النبوة للبيهقي].
(إذا مشى كأنما ينحط من صبب) (وكأَنما يَنْحَطُّفي صَعَد؛ هكذا جاءَ في رواية، يعني موضعًا عاليًا يَصْعَدُ فيهو ينحطّ،والمشهور: (كأَنما ينحط في صَبَبٍ) أَي في موضع مُنْحدر؛ وقال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: إذًا فقد كانت مشيتُه صلى الله عليه وسلم مفعمة بالحيوية والنشاط والهمة والحركة الشاملة المنتظمة مع القوة وتتابع الخطي الثابتة الرزينة بلا توقف ولا عجلة ولا اختيال أو تنعم أو تبختر، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة، ويمشي صلى الله عليه وسلم كأنما يصعد موضعًا عاليًا، وهذا الوصف دليل على التواضع والمثابرة وعلو الهمة أيضًا، والنشاط والتفاؤل، والتوكل والاحتساب، والحلم والصبر، وثبات المبدأ، ولم تختلف هذه المشية ولم تتبدل في العصرين المكي والمدني، بل كانت دومًا ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، في مرحلة الاستضعاف ومرحلة الجهاد، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، إنها مشية ينبغي للنبلاء محاكاتها؛ ففيها الكثير من الرفعة وعلو الشأن والقدرة على إحكام الأمور وبسط الظل.
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه
ذريع المشية)
المعنى اللغوي: (والتَّذْرِيعُفي المشي: تحريك الذِّراعين وذَرَّع بيديهتَذْرِيعًا:حرَّكهما في السعْي واستعان بهما عليه، وقيل في صفته صلى الله عليه وسلم: إِنه كانذَرِيعَالمشْي أَي سريعَ المشْي واسعَ الخَطْوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: من المعروف أن استخدام الذراعين في المشي دلاله على انتظام المشية واتزانها واتزان الجسد كله معها، وهذا دليل على التوازن والاستقرار النفسي مع ما يحمله أيضا من دلالات معنوية أخرى تعبر عن السعي الصريح نحو الحق ووضوح الهدف ومعرفته للطريق الذي سيسلكه وعدم التردد في معرفة الوجهة التي سينتهجها، فالساعي نحو طريق بتردد هل يمضي فيه أم يمضي في غيره لا تراه أبدًا ينتهج هذه المشية، على خلاف عدّائي الماراثون مثلًا، وإن كان استخدامهم للذراعين بطريقة أكبر، وكذلك فيها دليل على تكاثر المسؤوليات والأعباء التي تنتظره، بل ينتظرها ويستقبلها على رحمة ورحب وسعة من أمره بحسبان مسبق منه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحمل مشيات أخرى غير تلك المشية.
(يخطو تَكَفِّيًا):
المعنى اللغوي: يميل الى سمته وقصد مشيته؛ كما قال في الرواية الأخرى: ((كأنما ينحط في صبب)).
المعنى الدلالي: وليس كما زعم كثيرون أي مال يمينًا وشمالاً، كما تكفأ السفينة.
قال الأزهري: "هذا خطأ؛ لأن هذا صفة المختال". [صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته].
ويأتي وصفٌ درِّيٌ آخر يوضح لنا جزءًا من الصورة مفقودًا في قول هند بن أبي هالة رضي الله عنه (ويمشي هونا):
المعنى اللغوي: في غريب الحديث (قوله: "يخطو تكفيًا ويمشي هونًا" يريد أنه يميد إذا خطا، ويمشي في رفق غير مُخال، لا يضرب عطفا)، والهون بفتح الهاء: الرفق؛ قال الله جل وعز: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) [غريب الحديث لابن قتيبة].
المعنى الدلالي: قبل أن يتدافع لأذهاننا صورة غير واقعية عن مشيه صلى الله عليه وسلم تأتي كلمة (هونًا) وتكسر حدة التكفي والاقتلاع السابقين وحتى لا يتبادر للذهن أنها مشية خيلاء أو أن بها شيئًا من المرح أو الزهو،كما قال تعالى: ﴿ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ﴾ [الإسراء: 37].
قال قتادة: لا تمش في الأرض فخرًا وكبرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك)[تفسير الطبري]، وتأتي كلمة (هونًا) دليلا على تواضعه صلى الله عليه وسلم في مشيته وتطبيقا للآيتين الكريمتين اللتين ركزتا على صفة التواضع في المشي، ثم هي دلالة على تريثه وحلمه وأناته صلى الله عليه وسلم، واتزانه كذلك، ليكتمل المعنى الذي أوضحناه في العنوان: تواضع مع علو الهمة.
2- قوامة بقدر أمة:
يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (يسوق أصحابه):
المعنى اللغوي: (أي يقدّمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعًا، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه) [النهاية لابن الأثير].
وفي رواية (كان ينُسّ أصحابه، والنسّ السَّوْق، وكانت مكة تسمى الناسّة؛ لأن الباغي فيها والمحدث يخرج منها)[5].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (امشوا أمامي، وخلوا ظهري للملائكة) [6].
المعنى الدلالي: هنا معنى من معاني التربيت على كتف الصحبة واحتوائهم معنويًّا ونفسيًّا برفع الهمم وشد الأزر؛ لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يسوق رعيته من قبل بمكة في الجاهلية بنفس الطريقة الحانية التي تُشعر من يرى هذه الصورة من بعيد بمدى تحمله لهذه المسؤولية العظيمة، وكأنه حامي ظهورهم وململم لشملهم ومكفكف جراحهم وخائف عليهم من ذئاب الصحراء ولهيب الفيافي وقفر العيش الأخروي، ولربما كان هذا هو السبب في أنه (ما بَعَث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم) [7].
وكما يقول الإمام ابن حجر (قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهمالحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة....) أ.هـ [8].
إنه معنى راقٍ من معاني القوامة التي لا تعدلها قوامة في تاريخ البشرية، إنها قوامة على الأمة المحمدية بأسرها تستشعرها في مجرد تأخره عنهم صلى الله عليه وسلم، حتى يطمئن على نهاية السرب، وتقر عينه برسو المسير، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم: هيا أكملوا المسير.. لا تتوقفوا وامضوا قدمًا إلى الأمام.. وأنا من ورائكم.. فلن أعيش لكم مديدًا، ولن أدوم طويلا، وماذا لو مت أو قتلت؟ أنتم حماة العقيدة وحراس النصر، قد تأخرت عنكم وأنا شاهد فيكم لأكون في مقدمتكم وأنا غائب عنكم.
إنه تأخر بتوجيه وسوق كما قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه (يسوق أصحابه).
إن سلوكه الحالي صلى الله عليه وسلم لم يكن مغايرًا بحال لمنهجه البعيد وغاياته الكبرى في تحقيق نفس الطريقة معهم في شتى الدروب؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يسوقهم، ليس فقط في المشي، بل في كل صغيرة وكبيرة، لقد كان سوقا حالًّا على أرض الواقع وكان أيضًا تطبيقا وتحقيقا لمدارك عظمى وأهداف جسام.
لذا فقد لاقى أصداءه المشرقة بين جنباتهم رضوان الله عليهم أجمعين حتى علا صوته وارتفع ارتفاع مؤذن الخير في سماء التوحيد ليمتد نور هذا السوق عبر الأزمان والعصور إلى يومنا هذا.
ووالله لو كان هذا السوق لذئاب خادعة أو وحوش ضارية كما يكذب البعض ويفتري على صحابته صلى الله عليه وسلم ما سمعنا له صدى، ولاندثرت معالمه وماتت آثاره فلم يصل لنا منه شيء، لكنهم رضي الله عنهم بلّغوا عنه حق التبليغ، فجزاهم الله خيرًا، فنقلوا لنا حتى لمحات عينيه ولفتات رجليه قولًا وعملًا، حتى كانوا ينقلون حديثه تسلسلا وصفًا لحاله في أثناء التحدث، وتطبيقًا لحال الوصف وما كان ذلك ينبع إلا من قلوب مُحِبة له حق المحبة وموقرة له حق الوقار؛ كما قال عز وجل: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 21] فرضي الله عنهم أجمعين.
3- الجلال والشرف والتوكل:
ولِم لا؟ وقد كان سيد ولد آدم، فاصطفى الجبار ذو الجلال كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم من بني هاشم. وفي وصف أم معبد في أثناء هجرته صلى الله عليه وسلم حين مرّ على خيمتها جملة حدَّثت بها زوجها لم تكن لتخطئه صلى الله عليه وسلم وذلك في قولها: (محفود محشود)
المعنى اللغوي: يقال (محفود أي مخدوم، والحفدة الخدم؛ قال الله جل وعز ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: 72]، يقول: هم بنون وهم خدم، ويقال في دعاء الوتر: "وإليك نسعى ونَحفِد"، يريد بـ"نحفد" نبادر، وقولها (محشود) هو من قولك أحشدت لفلان في كذا إذا أردت أنك أعددت له وجمعت له) [9].
المعنى الدلالي: من العجيب حقا أن تستشعر هذه الأعرابية هاتين الصفتين بهذه الطريقة في تلك اللحظات تحديدًا، فالأحرى -لكي نكون منصفين في تصوير وصفها- أن نقول: محفود بلا خدم محشود بلا حشد، بل إن قاصر النظر يرى أنه كان الحشد عليه صلى الله عليه وسلم بجائزة مادية قدرها مائة ناقة لمن يعثر عليه ويسلمه لقريش،فأي حشد توسمته هذه الأعرابية النجيبة وأي حفد استشعرت به تلك الأريبة؟!!
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات مهاجرًا من مكة إلى المدينة مع الصديق رضي الله عنه، حاله حال الطريد - إن تكلمنا على ظاهر الحال - الذي يخشى عواقب صناديد قريش وما يدبرونه له من مكايد، ومَنْ في مثل حاله صلى الله عليه وسلم قد تحفه مشاعر التخفي والتحرز من الآخر والترصد والترقب لكل ما حوله، لكن هذا الوصف المفترض لم يكن يرافقه وتلك المشاعر لم تكن تنتابه صلى الله عليه وسلم رغم كونها أصعب اللحظات التي يمكن أن يلاقيها بشر في سفره، بل رأينا توكله على الله عز وجل حتى في حلب شاة أم معبد الهزيلة العجفاء.
إن هذا الوصف يثبت لنا شرفه وجلاله وبهاءه صلى الله عليه وسلم، ويثبت لنا بديهة صفاته وانسيابها قلبا وقالبا، قولا وعملا بلا تكلف صلى الله عليه وسلم ليكون خلقه القرآن.
وفي الختام أقول: الحديث عن دلالات مشيه صلى الله عليه وسلم لا ينتهي إلا أن الأسطر تكتظ بالكلمات بقصد الاختصار، وهذا الحديث يبقى كدلالات لنا لنتعلم منه ونقتفي أثره، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم غني عن المدح وسوق الأدلة، ولا يزيد المصباحُ ضوءَ الشمس نورًا[/size]
وبعد:
ففي ظلالِ مشيِ خيرِ من وطِئَ الثرى -صلى الله عليه وسلم- نمضي، لنرى معالِمَ طريقه التي خطها لنفسه ولمن بعده من أمته، نعم ربما هي مجردُ مِشية مادية على أرضٍ مدها ربي مدًّا كان يمشيها صلى الله عليه وسلم، لكنها قد تكشف عن كثيرٍ من رموز قد تفك لنا شفرات لطالما عجَزنا عن استيعابها، وعلامات لطريق النور الذي رسمه وأهداه لنا صلى الله عليه وسلم.
ولما كان خلقه القرآن، ولما كان دومًا مثالًا حيًّا على أرض الواقع، فقد كان ثمة تطابق بين سلوكه وسماته الحالية وبين منهجه في الحياة صلى الله عليه وسلم وغاياته الكبرى ومهماته الخطيرة، وكلامي لا يقصد به التركيز على ظاهر هديه صلى الله عليه وسلم دون الباطن، بل هو دليلٌ عليه، وحلقة متصلة وبرنامج متكامل ينسجم فيه الهدي الظاهر والسمات العامة مع الأخلاق والسلوك وأعمال القلوب لتتلاحم مشيته الحالية مع خطى طريق الكفاح الصراح الممتد عبر العصر النبوي إلى أن تتصلَ لَأْلآتُ عبقِه الزاكي في الفوز الكبير والمقام المحمود.
ولقد كان هديُه في مشيه صلى الله عليه وسلم مليئًا بدلالات ومعانٍ قال فيها الشاعر:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينة
كانت بديهتُه تُنبيك بالخبرِ
صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
وينبغي لنا قبل الشروع في هدي مشيه صلى الله عليه وسلم توضيحُ أهمية المشي ومدى ارتباطه بشخصية الإنسان.
المشي عند علماء النفس والفراسة:
فعلماء النفس والفراسة يقولون: إن مشي المرء يعطي مدلولا على شخصيته، بل يعدونه ميزانًا للاستقرار والاتزان النفسي.
وطريقة المشي تعطي الانطباعَ الأول الذي يظل شديدَ الأهمية في العلاقات الإنسانية، فلو مشى الشخص بتثاقل وكأنه يجر رجليه، محنيًّا ظهرُه، كان هذا دليلًا على الانطواء والكآبة، وبعكسه لو مشى معتدلَ القامة بخطى ثابتة، فذلك دليل على اتزان الشخص واستقراره النفسي وقوته النفسية..
المشي في لغة العرب:
ولقد حظي المشي في لغة العرب في الجاهلية بالكثير من الألفاظ والمترادفات الثرية التي تدل على اهتمامهم بالمشيوتَفَهُّمهم للدلالات والمعاني التي ترتبط بطريقة كل مشية، فكان منها الوهص (المشي شديد الوطء)، والرهو (المشي السهل المستقيم)، والجدف (الإسراع في المشي مع سرعة تحريك اليدين) والدلف (مشي مع تقارب الخطى) والبيقرة (أن يمشي مسرعًا مع طأطأة الرأس)، والزياف (أن يمشي في سرعة مع تمايل وكأنه سيستدير)[1].
ووصف الأعشى محبوبته بالرفاهية والتبختر قائلا:
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها
تمشي الهوينى كما يمشي الوَجِي الوَجِلُ
(أو الوَحِلُ) أي تمشي بتريث كما يمشي الخائف المترقب أو أنها تمشي بتريث لأنها كمن يمشي على الطين الرقيق، وهنا ينعتها بالدلال في مشتها.
دلالات المشي في القرآن والحديث:
وفي القرآن الكريم دلالات تفصح عن العلاقة بين الصفات الإنسانية ومشي المرء وما يخلف ذلك من مؤثرات إما بالخير وإما الشر على الإنسان.
• ففي قول الله تبارك وتعالى:﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18] دليل على ذم الخيلاء والمرح والعجب وذلك من خلال ذم هيئة المشية.
• وفي قوله عز وجل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25] دليل على صفة الحياء والتأدب وغض البصر، كل هذا لم يظهر إلا بذكر هيئة المشي التي كانت عليها ابنةُ شعيب في سؤلها لموسى عليه السلام، وكما قال ابنُ كثير في تفسيره: إنه مشي الحرائر، وكأنه يبين الفرق بينه وبين مشي البغايا والإماء المائلات المميلات كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جلَّى ذلك قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع خَرَّاجة ولاجة". هذا إسناد صحيح. [تفسير ابن كثير سورة القصص].
• ولقد جاءت المشية أحيانًا في السياقات القرآنية لتدل على خبث الفعلة المصاحبة للمشية وقبحها؛ فقال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].
وصفة المشي هنا إن كانت مادية فالمقصود بها الحركة والسعي وراء النميمة كما فسرها ابن كثير: (المشاء بنميم: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة).
أو أنها مشية معنوية كما فسرها السعدي في قوله (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء. وفيها قال الراغب الأصفهاني: (ويُكْنَى بالمشي عن النميمة)، وفسرها البغوي بقوله: (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.
ويوضحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إليالمشاؤونبالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العنت" [2].
• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مشى أبو دجانة متبخترًا أمامه في غزوة أحد: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) [3] لأن هذه المشية المفعمة بالكبر والفخر تستعمل لإذلال أعداء الله وإرهابهم.
• ولقد كانت كذلك مشية (الرمل) في الحج، رسالة إعلامية قصيرة فعّالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مشركي مكة تبلغهم قوة النبي وأصحابه ومعافاتهم من السقم وصحتهم البدنية وأنهم أُسودٌ إن دعا داعي الجهاد.
ولما كانت هناك مشيات يبغضها الله عز وجل، وهناك أخرى يحبها الله عز وجل، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يلحظون مشية النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتنون بذلك، ويقتدون بها؛ فأم المؤمنين عائشة تقول في مشية فاطمة سيدة نساء المؤمنين رضي الله عنهما: (فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، ولا والله ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
فكيف كانت إذًا مشيته بأبي هو وأمي وما مدلولاتها؟
في ظلال مشيه صلى الله عليه وسلم:
وقد اعتنيت في هذا المبحث ببيان النص في حديث هند ابن أبي هالة رضي الله عنه لابن أخته الحسن رضي الله عنه واصفًا مشي النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحمله لنا من دلالات[4] تفصح عن محامد صفاته صلى الله عليه وسلم، وتطابقها مع خلقه ومنهجه، وذلك لتيسير الوصول إليها، والاقتداء بها، والاستفادة العملية منها، وذلك بعيدًا عن النظر في بلاغة الألفاظ في حد ذاتها؛ إذ ليس موضع البحث.
1- علو الهمة والمثابرة في العمل مع التواضع:صفتان عظيمتان قلما اجتمعا معا، فكثيرٌ ممن أهمتهم همتهم وطموحاتهم المستقبلية تلوثوا بغثيان الكبر والاغترار والعجب، وكثير ممن أهمهم التواضع تراهم أفرطوا في التذلل إلى حد الزهد في طلب الهمم، فما عزموا على معالجة أنفسهم من داء العجب بالتواضع إلا وأصابوها بداء العزوف عن طلب الهمة والاستزادة من الطموح ومعالي الأمور، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني لنا مثالاً جديدًا وسطًا بين هذا وذاك، يتضح ذلك في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم؛ يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: (كان إذا زال زال قَلِعا)
المعنى اللغوي: (الزَّوَّال: الذي يتحرَّك في مشيه كثيرًا وما يقطعه من المسافة قليل) [لسان العرب]، وهو دليل المثابرة في نيل الأمور، (وقَلِعا: معناه أنه إذا مشي وتَقَلَّعَ في مَشْيَتِه: مشَى كأَنه يَنْحَدِرُ، أَراد قوّة مشيه، وأَنه كان يرفع رجليه من الأَرض إِذا مشى رَفْعًا بائنًا بقوّة، لا كمن يَمْشِي اخْتِيالًا وتَنَعُّمًا، ويُقارِبُ خُطاه، فإِنّ ذلك من مَشْي النساء ويُوصَفْنَ به، وقال الأزهريّ: يقال هو كقوله: كأَنما يَنْحَطُّ في صَبَبٍ، وقال ابن الأَثير: الانْحِدارُ من الصَّبَبِ، والتَّقَلُّعُ من الأَرض قريب بعضه من بعض، أَراد أَنه كان يستعمل التَّثَبُّّت ولا يَبِينُ منه في هذه الحال اسْتعجال ومُبادرة شديدة) [لسان العرب].
وفي غريب الحديث ("إذا زال زال قلعًا" هو بمنزلة قول علي عليه السلام في وصفه: "إذا مشى تقلع") [غريب الحديث لابن قتيبة]، (التقلع:القوة في المشي مع تتابع الخطى) [دلائل النبوة للبيهقي].
(إذا مشى كأنما ينحط من صبب) (وكأَنما يَنْحَطُّفي صَعَد؛ هكذا جاءَ في رواية، يعني موضعًا عاليًا يَصْعَدُ فيهو ينحطّ،والمشهور: (كأَنما ينحط في صَبَبٍ) أَي في موضع مُنْحدر؛ وقال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: إذًا فقد كانت مشيتُه صلى الله عليه وسلم مفعمة بالحيوية والنشاط والهمة والحركة الشاملة المنتظمة مع القوة وتتابع الخطي الثابتة الرزينة بلا توقف ولا عجلة ولا اختيال أو تنعم أو تبختر، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة، ويمشي صلى الله عليه وسلم كأنما يصعد موضعًا عاليًا، وهذا الوصف دليل على التواضع والمثابرة وعلو الهمة أيضًا، والنشاط والتفاؤل، والتوكل والاحتساب، والحلم والصبر، وثبات المبدأ، ولم تختلف هذه المشية ولم تتبدل في العصرين المكي والمدني، بل كانت دومًا ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، في مرحلة الاستضعاف ومرحلة الجهاد، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، إنها مشية ينبغي للنبلاء محاكاتها؛ ففيها الكثير من الرفعة وعلو الشأن والقدرة على إحكام الأمور وبسط الظل.
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه
ذريع المشية)
المعنى اللغوي: (والتَّذْرِيعُفي المشي: تحريك الذِّراعين وذَرَّع بيديهتَذْرِيعًا:حرَّكهما في السعْي واستعان بهما عليه، وقيل في صفته صلى الله عليه وسلم: إِنه كانذَرِيعَالمشْي أَي سريعَ المشْي واسعَ الخَطْوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: من المعروف أن استخدام الذراعين في المشي دلاله على انتظام المشية واتزانها واتزان الجسد كله معها، وهذا دليل على التوازن والاستقرار النفسي مع ما يحمله أيضا من دلالات معنوية أخرى تعبر عن السعي الصريح نحو الحق ووضوح الهدف ومعرفته للطريق الذي سيسلكه وعدم التردد في معرفة الوجهة التي سينتهجها، فالساعي نحو طريق بتردد هل يمضي فيه أم يمضي في غيره لا تراه أبدًا ينتهج هذه المشية، على خلاف عدّائي الماراثون مثلًا، وإن كان استخدامهم للذراعين بطريقة أكبر، وكذلك فيها دليل على تكاثر المسؤوليات والأعباء التي تنتظره، بل ينتظرها ويستقبلها على رحمة ورحب وسعة من أمره بحسبان مسبق منه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحمل مشيات أخرى غير تلك المشية.
(يخطو تَكَفِّيًا):
المعنى اللغوي: يميل الى سمته وقصد مشيته؛ كما قال في الرواية الأخرى: ((كأنما ينحط في صبب)).
المعنى الدلالي: وليس كما زعم كثيرون أي مال يمينًا وشمالاً، كما تكفأ السفينة.
قال الأزهري: "هذا خطأ؛ لأن هذا صفة المختال". [صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته].
ويأتي وصفٌ درِّيٌ آخر يوضح لنا جزءًا من الصورة مفقودًا في قول هند بن أبي هالة رضي الله عنه (ويمشي هونا):
المعنى اللغوي: في غريب الحديث (قوله: "يخطو تكفيًا ويمشي هونًا" يريد أنه يميد إذا خطا، ويمشي في رفق غير مُخال، لا يضرب عطفا)، والهون بفتح الهاء: الرفق؛ قال الله جل وعز: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) [غريب الحديث لابن قتيبة].
المعنى الدلالي: قبل أن يتدافع لأذهاننا صورة غير واقعية عن مشيه صلى الله عليه وسلم تأتي كلمة (هونًا) وتكسر حدة التكفي والاقتلاع السابقين وحتى لا يتبادر للذهن أنها مشية خيلاء أو أن بها شيئًا من المرح أو الزهو،كما قال تعالى: ﴿ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا ﴾ [الإسراء: 37].
قال قتادة: لا تمش في الأرض فخرًا وكبرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك)[تفسير الطبري]، وتأتي كلمة (هونًا) دليلا على تواضعه صلى الله عليه وسلم في مشيته وتطبيقا للآيتين الكريمتين اللتين ركزتا على صفة التواضع في المشي، ثم هي دلالة على تريثه وحلمه وأناته صلى الله عليه وسلم، واتزانه كذلك، ليكتمل المعنى الذي أوضحناه في العنوان: تواضع مع علو الهمة.
2- قوامة بقدر أمة:
يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (يسوق أصحابه):
المعنى اللغوي: (أي يقدّمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعًا، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه) [النهاية لابن الأثير].
وفي رواية (كان ينُسّ أصحابه، والنسّ السَّوْق، وكانت مكة تسمى الناسّة؛ لأن الباغي فيها والمحدث يخرج منها)[5].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (امشوا أمامي، وخلوا ظهري للملائكة) [6].
المعنى الدلالي: هنا معنى من معاني التربيت على كتف الصحبة واحتوائهم معنويًّا ونفسيًّا برفع الهمم وشد الأزر؛ لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يسوق رعيته من قبل بمكة في الجاهلية بنفس الطريقة الحانية التي تُشعر من يرى هذه الصورة من بعيد بمدى تحمله لهذه المسؤولية العظيمة، وكأنه حامي ظهورهم وململم لشملهم ومكفكف جراحهم وخائف عليهم من ذئاب الصحراء ولهيب الفيافي وقفر العيش الأخروي، ولربما كان هذا هو السبب في أنه (ما بَعَث الله نبيًّا إلاَّ رعى الغنم) [7].
وكما يقول الإمام ابن حجر (قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهمالحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة....) أ.هـ [8].
إنه معنى راقٍ من معاني القوامة التي لا تعدلها قوامة في تاريخ البشرية، إنها قوامة على الأمة المحمدية بأسرها تستشعرها في مجرد تأخره عنهم صلى الله عليه وسلم، حتى يطمئن على نهاية السرب، وتقر عينه برسو المسير، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم: هيا أكملوا المسير.. لا تتوقفوا وامضوا قدمًا إلى الأمام.. وأنا من ورائكم.. فلن أعيش لكم مديدًا، ولن أدوم طويلا، وماذا لو مت أو قتلت؟ أنتم حماة العقيدة وحراس النصر، قد تأخرت عنكم وأنا شاهد فيكم لأكون في مقدمتكم وأنا غائب عنكم.
إنه تأخر بتوجيه وسوق كما قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه (يسوق أصحابه).
إن سلوكه الحالي صلى الله عليه وسلم لم يكن مغايرًا بحال لمنهجه البعيد وغاياته الكبرى في تحقيق نفس الطريقة معهم في شتى الدروب؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يسوقهم، ليس فقط في المشي، بل في كل صغيرة وكبيرة، لقد كان سوقا حالًّا على أرض الواقع وكان أيضًا تطبيقا وتحقيقا لمدارك عظمى وأهداف جسام.
لذا فقد لاقى أصداءه المشرقة بين جنباتهم رضوان الله عليهم أجمعين حتى علا صوته وارتفع ارتفاع مؤذن الخير في سماء التوحيد ليمتد نور هذا السوق عبر الأزمان والعصور إلى يومنا هذا.
ووالله لو كان هذا السوق لذئاب خادعة أو وحوش ضارية كما يكذب البعض ويفتري على صحابته صلى الله عليه وسلم ما سمعنا له صدى، ولاندثرت معالمه وماتت آثاره فلم يصل لنا منه شيء، لكنهم رضي الله عنهم بلّغوا عنه حق التبليغ، فجزاهم الله خيرًا، فنقلوا لنا حتى لمحات عينيه ولفتات رجليه قولًا وعملًا، حتى كانوا ينقلون حديثه تسلسلا وصفًا لحاله في أثناء التحدث، وتطبيقًا لحال الوصف وما كان ذلك ينبع إلا من قلوب مُحِبة له حق المحبة وموقرة له حق الوقار؛ كما قال عز وجل: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 21] فرضي الله عنهم أجمعين.
3- الجلال والشرف والتوكل:
ولِم لا؟ وقد كان سيد ولد آدم، فاصطفى الجبار ذو الجلال كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى نبينا صلى الله عليه وسلم من بني هاشم. وفي وصف أم معبد في أثناء هجرته صلى الله عليه وسلم حين مرّ على خيمتها جملة حدَّثت بها زوجها لم تكن لتخطئه صلى الله عليه وسلم وذلك في قولها: (محفود محشود)
المعنى اللغوي: يقال (محفود أي مخدوم، والحفدة الخدم؛ قال الله جل وعز ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: 72]، يقول: هم بنون وهم خدم، ويقال في دعاء الوتر: "وإليك نسعى ونَحفِد"، يريد بـ"نحفد" نبادر، وقولها (محشود) هو من قولك أحشدت لفلان في كذا إذا أردت أنك أعددت له وجمعت له) [9].
المعنى الدلالي: من العجيب حقا أن تستشعر هذه الأعرابية هاتين الصفتين بهذه الطريقة في تلك اللحظات تحديدًا، فالأحرى -لكي نكون منصفين في تصوير وصفها- أن نقول: محفود بلا خدم محشود بلا حشد، بل إن قاصر النظر يرى أنه كان الحشد عليه صلى الله عليه وسلم بجائزة مادية قدرها مائة ناقة لمن يعثر عليه ويسلمه لقريش،فأي حشد توسمته هذه الأعرابية النجيبة وأي حفد استشعرت به تلك الأريبة؟!!
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات مهاجرًا من مكة إلى المدينة مع الصديق رضي الله عنه، حاله حال الطريد - إن تكلمنا على ظاهر الحال - الذي يخشى عواقب صناديد قريش وما يدبرونه له من مكايد، ومَنْ في مثل حاله صلى الله عليه وسلم قد تحفه مشاعر التخفي والتحرز من الآخر والترصد والترقب لكل ما حوله، لكن هذا الوصف المفترض لم يكن يرافقه وتلك المشاعر لم تكن تنتابه صلى الله عليه وسلم رغم كونها أصعب اللحظات التي يمكن أن يلاقيها بشر في سفره، بل رأينا توكله على الله عز وجل حتى في حلب شاة أم معبد الهزيلة العجفاء.
إن هذا الوصف يثبت لنا شرفه وجلاله وبهاءه صلى الله عليه وسلم، ويثبت لنا بديهة صفاته وانسيابها قلبا وقالبا، قولا وعملا بلا تكلف صلى الله عليه وسلم ليكون خلقه القرآن.
وفي الختام أقول: الحديث عن دلالات مشيه صلى الله عليه وسلم لا ينتهي إلا أن الأسطر تكتظ بالكلمات بقصد الاختصار، وهذا الحديث يبقى كدلالات لنا لنتعلم منه ونقتفي أثره، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم غني عن المدح وسوق الأدلة، ولا يزيد المصباحُ ضوءَ الشمس نورًا[/size]