المولد والنشأة
من مشرق المجد والرسالة بزغ في ربوع مكة نور ساطع في بيت سيد البطحاء أبي طالب
(رضي الله عنه) حيث ولد جعفر (رضي الله عنه) بعد ولدين وهما طالب وعقيل، وكان كل منهم
يكبر أخاه بعشر سنين، وبعده بعشر سنين ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
وبناءً على هذا تكون ولادة جعفر (رضي الله عنه) بثلاثة وثلاثين سنة قبل الهجرة - على التقريب -.
ولاشك أن شخصية جعفر (رضي الله عنه) ازدحمت فيها كل الفضائل والمكرمات، ولم لا
وهو قد نشأ في مدرسة أبي طالب (رضي الله عنه)، سيد البطحاء والمحامي الأول عن الرسول،
(صلى الله عليه وآله) ورسالته، لا ينكر ذلك إلا جاحد وجاهل فقد امتلأت كتب الأدب والتاريخ
بأشعاره الصريحة التي توضح عمق إيمانه بالنبي (صلى الله عليه وآله) ورسالته فقد جاء
في السيرة الحلبية (ج1: ص 165).
إن أبا طالب (رضي الله عنه) خطب في زواج ابن أخيه محمد (صلى الله عليه وآله) من خديجة،
وقال: (وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل).
وقال راداً على قريش كما نقل البغدادي في خزانة الأدب (ج1 ص 261).
ألم تعلـــموا أنـــا وجدنا محمداً***نبياً كمـوسى خط في أول الكتب
وقال (رضي الله عنه) مخاطباً النجاشي ملك الحبشة.
تعلم خـــيار الــــناس أن محــمداً***وزير لموسى والمسيح ابن مريم
أتى بالهــــدى مثل الذي أتــيا به***فكــــل بـــــأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلـونه في كتابكم بصــدق***حديــــــث لا حــــــــديث المترجم
فلا تجعـــــلوا الله نـداً وأسلــموا***فإن طريق الحــق لـــــيس بمظلم
وقال مخاطباً النبي (صلى الله عليه وآله)
اذهـــب بُني فما عليك غضاضة***اذهب وقر بذاك مــــــنك عيونا
والله لــــن يصلوا إليك بجمعهم***حتى أوسد فـــــي الـتراب دفينا
ودعوتنـي وعلمت أنك ناصحي***ولقد صدقت وكـــــنت قبل أمينا
وذكرتَ ديــــناً لا مــــــحالة أنه***من خـــــير أديــــان البرية دينا
وبعد هذه الصراحة هل يخالج الريب أحداً في إيمان أبي طالب وهل يجوز على من
يقول(إنا وجدنا محمداً نبياً كموسى) إلا الاعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدمين،
وهل يكون إقرار بالنبوة أبلغ من قوله:- (فأمسى ابن عبد الله فينا مصدقاً) وهل فرق
بين أن يقول المسلم:- أشهد أن لا إله إلا الله، وبين أن يقول:-
وإن كان أحمد قد جاءهم***بصــــدق ولم يتهم بالكذب
وهل هناك جملة يعبر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم:
وذكرت ديناً لا محالة أنه***من خــير أديان البرية ديناً
وهل يجد المنصف بعد هذا كله ملتحداً عن الجزم بأن شيخ الأبطح كان معتنقاً للدين الحنيف
ويكافح طواغيت قريش.
وصدق الشاعر حيث يقول في حقه،
ولولا أبــــو طــــالب وابـــــــنُهُ***لما مُثّل الدين شــخصاً فــــقاما
فذاك بمــــــكة آوى وحـــــــاما***وهذا بيثرب حــــبس الحــــِماما
تكفل عـــــــبد مـــــــــناف بأمر***وآوى فــــــــكان عليٌ تـــــماما
فلله ذا فاتـــــــــحاً الهـــــــــدى***ولله ذا للمــــــــعالي خـــــــتاماً
(شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 84)
وأما أمهُ فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم التي كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأم
وهي أول هاشمية تزوجت هاشمياً وولدت له وأدركت النبي (صلى الله عليه وآله)
فأسلمت وحَسُن إسلامها.
عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال:-
(كانت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب حادية عشرة) يعني في السابقة إلى الإسلام.
وكانت بدريَّة وهاجرت وبايعت معه. وعن الزبير بن العوام
قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعو النساء إلى البيعة حين أنزلت هذه الآية:-
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك..)،
وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت رسول الله،
(صلى الله عليه وآله) وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها وصلى عليها ونزل في لحدها
واضطجع فيه وأحسن الثناء عليها.
عن ابن عباس لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قميصه واضطجع في قبرها فقال له أصحابه:-
يا رسول الله ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه المرأة، فقال: إنه لم يكن أحد
بعد أبي طالب أبرُ بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت في قبرها ليهون
عليها عذاب القبر (أسد الغابة: ج 7 ص 217).
في هذا البيت الذي كان في ذرى المجد والشرف والذي لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها
ولد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) وفتح عينيه على ذينك الأبوين العظيمين والذين أورثا كل
قيم الخير والإنسانية لوليدهما المبارك، وبعد أن كبر في كنف أبيه الذي كان بيته مأوى للقاصي
والداني، مر أبو طالب بأزمة لكثرة عياله من جهة ولأن موقعه الكبير والمتميز في مكة كان
يفرض عليه التزامات مالية غير قليلة، وكان جعفر يرى أباه وهو يواجه هذه الضائقة المادية
بكل صبر ويتلقاها بنفس كبيرة مطمئنة.
يقول المؤرخون أن أزمة شديدة مرت على قريش وكانت حصة أبي طالب منها كبيرة لما ذكرناه
من كثرة عياله من جهة وكثرة التزاماته الاجتماعية باعتباره مقصداً وموئلاً لذوي الحاجات
من جهة أخرى، وجاء النبي (صلى الله عليه وآله) لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم -
قائلاً له:-
يا عم إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى في هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف
عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه، فقال: الناس نعم.
فانطلقنا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس
ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله
(صلى الله عليه وآله)
علياً فضمه إليه وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله
حتى بعثه الله نبياً فتبعه وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه
(سيرة بن هشام: ج1 ص 263).
في موكب الرسالة:-أسلم جعفر (عليه السلام) بعد أخيه علي (عليه السلام) بقليل وكان إسلامه
قبل أن يتخذ النبي (صلى الله عليه وآله) دار الأرقم مركزاً له.
ففي الرواية عن علي بن إبراهيم: فأسلمت خديجة (رضي الله عنها)،
فكان لا يصلي إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وخديجة (رضي الله عنها)
خلفه فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بجنبه
يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِل جناح بن عمِك فوقف جعفر من الجانب الآخر وصلى عن يساره،
وحينها قال أبو طالب لابنيه علي (عليه السلام) وجعفر (عليه السلام):
إن علـــــــياً وجـــــــــعفرَ ثقتي***عند مـــــلم الخطـــوب والكرب
والله لا أخـــــــــذل النــــبي ولا***يخذله مـــن بـــــــني ذو حسب
لا تخذلا وانصــــرا ابــن عمكما***أخي لأمــــــي مـن بينهم وأبي
قال ابن إسحاق في تسمية السابقين إلى الإسلام: وجعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)
وامرأته أسماء بنت عُميس، وقال بن سعد: أسلم جعفر بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله
(صلى الله عليه وآله) دار الأرقم ويدعو فيها (طبقات بن سعد: ج 4 ص 23)،
وقال اليعقوبي في تاريخه: وأمره الله عز وجل أن ينذر عشيرته الأقربين - إلى أن قال -
وأسلم يومئذ (أي يوم إنذار العشيرة)جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق
عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين فأخذت قريش
من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
لقد كان جعفر - إذن - من السابقين للإسلام وكان ملازماً لرسول الله ملازمة الظل يرقب أفعاله
وتروكه ويسمع أقواله وعظاته ويبصر أعماله وحكمه ويقتص أثره منذ أن كان يصل جناح الرسول
الأيسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة الكبرى (رضي الله عنها).