بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

أدلة مرتبة الخلق


أي: أن الله تعالى خالق كل شيء, ومن ذلك أفعال العباد، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وهو خالقه...
أدلة هذه المرتبة من القرآن الكريم:
1- قال تعالى في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام حيث كسر أصنامهم ثم جاء إليه قومه يناقشونه مسرعين فقال لهم كما حكى الله عنه: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96]، أي خلقكم وعملكم فتكون (ما) مصدرية، وقيل: إنها بمعنى الذي، فيكون المعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيدكم وهو الأصنام (1) وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال: (وكلا القولين متلازم، والأول أظهر) (2) وقد علل ذلك بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يصنع كل صانع وصنعته)) (3) , وتلا بعضهم عند ذلك وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [ الصافات:96], فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة فالله تعالى خالق الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك الآية والحديث.
2- وقد وردت آيات كثيرة تدل دلالة واضحة على أن كل شيء مما في هذا الكون مخلوق لله سبحانه وتعالى, وقد وردت هذه الآيات بلفظ العموم فقال تعالى: اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ الرعد:16], وفي آية أخرى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ غافر:62], وهذه نصوص واضحة في الدلالة على مرتبة الخلق، وقد جاءت الآية الأولى في معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه، سبحانه وتعالى فنفى ذلك سبحانه آمراً رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في الأمر وتدل على وحدانية الله تعالى وانفراده بالخلق والرزق: اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وفي موضع آخر جاءت هذه الآية لبيان قدرة الله تعالى وكماله ودلائل وحدانيته: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ الزمر:62], أما الآية الثانية فقد جاءت أيضاً لبيان قدرة الله التامة حيث جعل لعبادة الليل والنهار ثم بين سبحانه أنه خالق كل شيء.
3- وقال تعالى ممتناً على الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن أمرهم بالتثبت في خبر الفاسق. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7], والشاهد قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ.. وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ... فهو سبحانه هو الذي جعل الإيمان محبوباً أو أحب الأشياء إليكم، وهو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم، وهو الذي جعل ما يضاد الإيمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروها عندكم، وذلك بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر وعدم إرادة فعله، فالفاعل في كل ذلك هو الله تعالى (4) .
وهناك آيات أخرى كثيرة تدل على أن الله تعالى هو المضل، والهادي, والمؤيد لعباده المؤمنين، والهازم لأعدائهم، وأنه المضحك, والمبكي, والمميت, والمحيي, وكل ذلك دليل على مرتبة الخلق، وقد أورد ابن كثير عند تفسيره لآية الحجرات السابقة، حديثاً يدل على هذه المرتبة عن ابن رفاعة الزرقي قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت, ولا هادي لما أضللت, ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما بعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك, ورحمتك, وفضلك, ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول, اللهم إني أسالك النعيم يوم العيلة, والأمن يوم الخوف, اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا, وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين, وأحينا مسلمين, وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك, ويصدون عن سبيلك, واجعل عليهم رجزك وعذابك, اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق)) (5) فترى في هذا الحديث بأن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأمور، وهذا دليل على مرتبة الخلق.
أدلة هذه المرتبة من السنة:
1- عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: ((اللهم أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل, والهرم وعذاب, القبر اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...)) الحديث (6) والشاهد قوله: ((اللهم آت نفسي تقواها وزكها...))، فالفاعل هو الله تعالى, فهو الذي يطلب منه ذلك ولفظ ((خير)) ليس للتفضيل بل لا مزكي للنفس إلا الله، ولهذا قال بعد ذلك: أنت وليها ومولاها (7) . فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر، قال تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [ الشمس:8], قال سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [ الشمس:8], أي: فالخلق والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه، وقال ابن زيد في معنى الآية: (جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى) (8) .
2- وعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى عليّ المغيرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خلف الصلاة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (9) . والشاهد قوله:
((اللهم لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت)), فالمعطي والمانع هو الله تعالى فهو الفاعل لهما، وهذا يدل على أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى وقوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، أو لا ينجيه حظه منك, بل ينفعه عمله الصالح.
3- وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((يا عبدالله بن قيس، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)) (10) والشاهد قوله: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)), ففيها الاعتراف بأنه لا صانع غير الله، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، فمعناها: لا حركة, ولا استطاعة, ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى (11) وقيل: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: ((لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته)) (12) ، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه, وكله متقارب, والكنز هنا: معناه ثواب مدخر في الجنة عند الله وهو ثواب نفيس (13) .
4- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب، وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينـا وثبت الأقدام إن لاقينا
المشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا (14)
رواه البخاري (6620).
.

وفي رواية أخرى للبخاري: ((ولا تصدقنا ولا صلينا)) (15) بدل: ((ولا صمنا ولا صلينا)) وبهذه الرواية يستقيم الوزن، قال ابن حجر: (وهو المحفوظ) (16) , ودليل هذه المرتبة قوله: ((لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا))، فإنها دليل على أن الله هو خالق العباد وأفعالهم, ومنها الهداية، والصدقة، والصلاة. (