بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المسيء يحاسب لأنه هو الذي أساء، وفعل الإساءة بمشيئته وإرادته واختياره... قال الشنقيطي في أضواء البيان: وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء. ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، كحركة المرتعش فرقا ضروريا، ولا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر، فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك, بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إن هذا بإرادتك ومشيئتك. وانظر للمزيد في الفتوى رقم: 129808.
فإذا تقرر أن للعبد مشيئة وإرادة، وأنه ليس مجبراً على أفعاله، فلماذا لا يحاسب عليها؟! وأما علم الله الأزلي فلا يلزم منه أن العبد مجبور على أفعاله، كالريشة في مهب الريح، وأنه معذور في إساءته.. قال الشنقيطي رحمه الله: وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية، وأما القدرية: فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا عن غير تأثير لقدرة الله فيه، وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب، ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل وإني لا بد أن تنفذ فيَّ مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعا تسمع به وبصراً تبصر به وعقلا تعقل به وأرسل لك رسولا وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض إن أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل، كما أشار له تعالى بقوله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ. بمعنى أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل. انتهي من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وقال أيضا في أضواء البيان: ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه, فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وعموما فينبغي للإنسان أن ينشغل بما أمره الله به، وأما الانشغال بسر القدر والتعمق والنظر فيه فهو ـ كما قال الإمام الطحاوي رحمه الله: ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم111938 وما أحيل عليه فيها
والله أعلم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن علم الله تعالى شامل للماضي والحاضر, ولجميع ما سيحصل في المستقبل في الدنيا والآخرة بما في ذلك تفاصيل أمور أهل الجنة وأمانيهم، ويدل لهذا عموم قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التوبة:115}، وقوله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {البقرة:231}. وقوله تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك:14}, وقوله تعالى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {الأنبياء:4}
وفي شرح النووي على صحيح مسلم: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" بيان لمذهب أهل الحق أن الله علم ما كان, وما يكون, وما لا يكون لو كان كيف كان يكون, وقد سبق بيان نظائره من القرآن والحديث.
وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرح العقيدة الواسطية: قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبدًا، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع, وما سيقع, ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط, لا يستثنى منه شيء، فأما علمه بالواجب، فكعلمه بنفسه, وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19].
إذن، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء. انتهى. وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتوى: 14739.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبقت الإجابة على ما تجده في نفسك من الوساوس برقم:
187 وأما بالنسبة لباقي السؤال فنقول: إن الله تعالى يقولعَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [سـبأ: 3] وقال: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61] وقال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]
فهذه الآيات القرآنية تدل -كما هو اضح- على أن الله تعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون من صغير وكبير. وعلم الله تعالى بالكائنات وكتابتها من مراتب القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بهما، ثم إن الله تعالى وكَّل بكل عبد ملائكة يسجلون جميع ما يعمل من خير وشر، بل وغيرهما، قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق:18] هذه أمور عقدية يجب على المؤمن أن يؤمن بها إيماناً جازماً. ولا شك أن استحضار هذا المعنى واستشعاره مما يعين على الخشوع في الصلاة، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأمور التي تساعد على الخشوع في الصلاة في الفتوى رقم: 90 ورقم: 6598 والذي ينبغي للمسلم هو أن يكون خائفاً من الله تعالى، دائم المراقبة له، مع الحذر من الغفلة، وانظر الجواب رقم: 10262 ففيه أن الخوف من صفات المؤمنين. وفيه أيضاً أسباب ضعف الخوف من الله تعالى أو انعدامه بالكلية. نرجو الله تعالى أن يلهمنا الرشد وأن يثبتنا عن الإيمان وأن يختم لنا بالسعادة.
والله أعلم.
قوله : ( وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه ، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ، ليس فيه ناقض ، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا محول ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ) .
ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء . فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم . فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إيجادها إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها . قال تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ الملك : 14 ] . وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالما في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا ! تعالى الله عما يقولون علوا [ ص: 354 ] كبيرا . قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقروا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا . فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه .
وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادرا على تغيير علم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله
قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع . ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم ، [ بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع .
وإذا قيل : فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه . وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه ! وهو فرض محال . وذلك بمنزلة من يقول : افرض وقوعه مع عدم وقوعه ! وهو جمع بين النقيضين .
[ ص: 355 ] فإن قيل : فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالا لم يكن مقدورا ؟ قيل : لفظ المحال مجمل ، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه ، بل هو ممكن مقدور مستطاع ، ولكن إذا وقع كان الله عالما بأنه سيقع ، وإذا لم يقع كان عالما بأنه لا يقع ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه . وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال !
ومما يلزم هؤلاء : أن لا يبقى أحد قادرا على شيء ، لا الرب ، ولا الخلق ، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه ، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله ، فكذلك ما قدره من أفعال عباده . والله تعالى أعلم .
الله سبحانه وتعالى كامل في علمه وطلاقة وصفه:
أيها الأخوة، نحن كما تعلمنا هناك أسماء يجوز أن يوصف بها الإنسان، من هذه الأسماء اسم "العليم" فسيدنا يوسف قال:
﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾
( سورةيوسف )
فهو ذو علم، وقد وصف نفسه بالعلم، وقد قال الله عنه:
﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾
( سورةيوسف الآية: 68 )
لكن محور هذا اللقاء الطيب كم هو الفرق بين علم الإنسان وبين علم الواحد الديان ؟ شتان بين علم مقيد محدود، وبين علم مطلق بلا حدود، سبحانه وتعالى كامل في علمه، وطلاقة وصفه، علمه فوق كل علم، قال تعالى:
﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
( سورةيوسف )
فالله عز وجل عليم بما كان، وعليم بما يكون، وعليم بما سيكون، وعليم بما لم يكن لو كان كيف كان يكون، لم يزل عالماً، ولا يزال عالماًَ، وعلمه أزلي وأبدي، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، أحاط علمه بجميع خلقه، أحاط علمه بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، دقيقها وجليلها.
واسم الله "العليم" اشتمل على مراتب العلم الإلهي.
علم الله عز وجل أزلي أبدي و علم الإنسان حادث وطارئ:
الله جلّ جلاله محيط بكل شيء علماً، في الظاهر وفي الباطن، في دقائق الأشياء، وفي جليلها، في أولها، وفي آخرها، في فاتحتها، وفي عاقبتها، ومع ذلك فعلم الله جل جلاله من طبيعة أخرى.
الآن أن مضطر أن أضرب مثلاً للتوضيح وللتقريب، والأمثال نجدها بكثرة في القرآن الكريم:
لو أن رجلاً عبقرياً اخترع آلة فائقة، عظيمة النفع، وجاء من بعده أجيال ودرسوا هذه الآلة، وعرفوا دقائق صنعها، واكتشفوا العلاقات فيما بين أجزائها، واكتشفوا القوانين التي على أساسها بنيت هذه الآلة، علم الجيل اللاحق الذي بحث، ودرس، واستنبط يختلف اختلافاً كلياً عن علم العبقري الذي اخترع الآلة، علم المخترع سبق وجود الآلة، لكن علم الدارس جاء بعد وجود الآلة، وجاء استنباطاً من دقائقها.
هذا المثل ضربه عالم جليل، علم الله سابق للوجود، علم الله أصل للوجود، بينما علم البشر لاحق للوجود، بل هو مكتسب من الوجود، فرق كبير بين علم الله، وبين علم خلقه، علمك أيها الإنسان مستنبط من الوجود، مستنبط من القواعد التي قعدها الله عز وجل، مستنبط من القوانين التي قننها الله عز وجل، مكتسب من الخصائص التي خصصها الله عز وجل، علم الله عز وجل أزلي أبدي، أما علمك حادث وطارئ.
العلم الإلهي سبب وجود الأشياء:
أيها الأخوة، علم الله هو الذي قنن هذه القوانين، هو الذي خصص هذه الأشياء بخصائصها، هو الذي سنن هذه السنن، فرق كبير بين أن تكتشف الخصائص الثابتة في شيء موجود، وبين أن تخلق هذه الخصائص.
من قنن أن البذور لابدّ منها لاستمرار الوجود ؟ لو الله خلق مليار، مليار، مليار، مليار، طن قمح وانتهوا، كيف القمح مستمر إلى قيام الساعة ؟ عن طريق البذور ، فكرة البذور من خلقها ؟ فكرة الزواج والإنجاب من خلقها ؟ نحن نستنبط لكن الله خلق، قنن، قعد القواعد، سنن السنن، قنن القوانين.
لذلك فرق كبير أن توجد شيئاً من العدم، ومن غير مثال سابق، وبين أن تكتشف خصيصة في شيء موجود، من هنا نقول الله عز وجل خلق كل شيء من لا شيء وعلى غير مثال سابق.
بل الإنسان إذا سميناه تجاوزاً، وقد سماه القرآن تجاوزاً خالق، قال الله:
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
( سورةالمؤمنون )
فإذ سميناه خالقاً تجاوزاً فهو صنع من كل شيء وعلى مليون مثال سابق ، الغواصة صنعت تقليداً للسمكة، والطائرة صنعت تقليداً للطائر، بل هناك موسوعة علمية تتحدث عن الطيور إن أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترقى إلى مستوى الطائر.
أيها الأخوة، علم البشر لاحق للوجود، كسبي، وعلم الخالق سابق للوجود وسببي، العلم الإلهي سبب وجود الأشياء، تعلق علمه بهذا الشيء، تعلقت إرادته، تعلقت قدرته، فكان هذا الشيء.
(( ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن ))
[أخرجه أبو داود عن بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم ]
وقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ما شاء الله وشئت، قال: بئس الخطيب أنت، جعلتني لله نداً،
(( ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن ))
علم الخالق سابق للوجود وسببي وعلم البشر لاحق للوجود وكسبي:
إذاً تعلق علم الله وإرادته، وقدرته بشيء فكان، ما شاء الله كان، بل إن علمه سبب لوجود هذا الشيء، أما علم البشر لاحق للوجود، هناك جبال، هناك أنهار، بحيرات ، عرفنا خصائص المياه، خصائص الهواء، عرفنا خصائص المياه صنعنا الباخرة، من جعل الماء يدفع الأجسام إلى الأعلى ؟ لولا هذا القانون قانون أرخميدس لما كان إبحار في الأرض، ولولا قوانين الهواء، الآن الطائرة تحمل ثمانمئة راكب، مدينة، ما الذي يحملها ؟ الهواء، الإنسان صنع وفق خصائص الماء البواخر، هناك بواخر فيها مليون طن، مدن، كل معلومات الإنسان، وكل علم الإنسان مستنبط من القواعد لتي قعدها الله، ومن القوانين التي قننها الله، ومن السنن التي سنها الله، ومن العلاقات الثابتة التي ثبتها الله، ومن الخصائص التي خص بها الأشياء.
إذاً فرق كبير بين أن تقول الله جل جلاله عليم، وفلان عليم، مع أن الله سمح في قرآنه،
﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾
أيها الأخوة، في لقاء آخر إن شاء الله نتابع هذا البحث.
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المسيء يحاسب لأنه هو الذي أساء، وفعل الإساءة بمشيئته وإرادته واختياره... قال الشنقيطي في أضواء البيان: وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء. ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية، كحركة المرتعش فرقا ضروريا، ولا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر، فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك, بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إن هذا بإرادتك ومشيئتك. وانظر للمزيد في الفتوى رقم: 129808.
فإذا تقرر أن للعبد مشيئة وإرادة، وأنه ليس مجبراً على أفعاله، فلماذا لا يحاسب عليها؟! وأما علم الله الأزلي فلا يلزم منه أن العبد مجبور على أفعاله، كالريشة في مهب الريح، وأنه معذور في إساءته.. قال الشنقيطي رحمه الله: وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية، وأما القدرية: فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا عن غير تأثير لقدرة الله فيه، وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب، ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل وإني لا بد أن تنفذ فيَّ مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعا تسمع به وبصراً تبصر به وعقلا تعقل به وأرسل لك رسولا وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض إن أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل، كما أشار له تعالى بقوله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ. بمعنى أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل. انتهي من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
وقال أيضا في أضواء البيان: ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه, فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا يجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وعموما فينبغي للإنسان أن ينشغل بما أمره الله به، وأما الانشغال بسر القدر والتعمق والنظر فيه فهو ـ كما قال الإمام الطحاوي رحمه الله: ذريعة الخذلان، وسُلَّم الحرمان، ودرجة الطغيان. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم111938 وما أحيل عليه فيها
والله أعلم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن علم الله تعالى شامل للماضي والحاضر, ولجميع ما سيحصل في المستقبل في الدنيا والآخرة بما في ذلك تفاصيل أمور أهل الجنة وأمانيهم، ويدل لهذا عموم قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {التوبة:115}، وقوله تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {البقرة:231}. وقوله تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {الملك:14}, وقوله تعالى: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {الأنبياء:4}
وفي شرح النووي على صحيح مسلم: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" بيان لمذهب أهل الحق أن الله علم ما كان, وما يكون, وما لا يكون لو كان كيف كان يكون, وقد سبق بيان نظائره من القرآن والحديث.
وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرح العقيدة الواسطية: قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبدًا، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع, وما سيقع, ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط, لا يستثنى منه شيء، فأما علمه بالواجب، فكعلمه بنفسه, وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] ، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19].
إذن، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء. انتهى. وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتوى: 14739.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبقت الإجابة على ما تجده في نفسك من الوساوس برقم:
187 وأما بالنسبة لباقي السؤال فنقول: إن الله تعالى يقولعَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [سـبأ: 3] وقال: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61] وقال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]
فهذه الآيات القرآنية تدل -كما هو اضح- على أن الله تعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون من صغير وكبير. وعلم الله تعالى بالكائنات وكتابتها من مراتب القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بهما، ثم إن الله تعالى وكَّل بكل عبد ملائكة يسجلون جميع ما يعمل من خير وشر، بل وغيرهما، قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق:18] هذه أمور عقدية يجب على المؤمن أن يؤمن بها إيماناً جازماً. ولا شك أن استحضار هذا المعنى واستشعاره مما يعين على الخشوع في الصلاة، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأمور التي تساعد على الخشوع في الصلاة في الفتوى رقم: 90 ورقم: 6598 والذي ينبغي للمسلم هو أن يكون خائفاً من الله تعالى، دائم المراقبة له، مع الحذر من الغفلة، وانظر الجواب رقم: 10262 ففيه أن الخوف من صفات المؤمنين. وفيه أيضاً أسباب ضعف الخوف من الله تعالى أو انعدامه بالكلية. نرجو الله تعالى أن يلهمنا الرشد وأن يثبتنا عن الإيمان وأن يختم لنا بالسعادة.
والله أعلم.
قوله : ( وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه ، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ، ليس فيه ناقض ، ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا محول ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ) .
ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء . فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم . فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إيجادها إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها . قال تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ الملك : 14 ] . وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالما في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا ! تعالى الله عما يقولون علوا [ ص: 354 ] كبيرا . قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقروا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا . فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه .
وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادرا على تغيير علم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله
قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع . ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم ، [ بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع .
وإذا قيل : فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه . وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه ! وهو فرض محال . وذلك بمنزلة من يقول : افرض وقوعه مع عدم وقوعه ! وهو جمع بين النقيضين .
[ ص: 355 ] فإن قيل : فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالا لم يكن مقدورا ؟ قيل : لفظ المحال مجمل ، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه ، بل هو ممكن مقدور مستطاع ، ولكن إذا وقع كان الله عالما بأنه سيقع ، وإذا لم يقع كان عالما بأنه لا يقع ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه . وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال !
ومما يلزم هؤلاء : أن لا يبقى أحد قادرا على شيء ، لا الرب ، ولا الخلق ، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه ، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله ، فكذلك ما قدره من أفعال عباده . والله تعالى أعلم .
الله سبحانه وتعالى كامل في علمه وطلاقة وصفه:
أيها الأخوة، نحن كما تعلمنا هناك أسماء يجوز أن يوصف بها الإنسان، من هذه الأسماء اسم "العليم" فسيدنا يوسف قال:
﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾
( سورةيوسف )
فهو ذو علم، وقد وصف نفسه بالعلم، وقد قال الله عنه:
﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾
( سورةيوسف الآية: 68 )
لكن محور هذا اللقاء الطيب كم هو الفرق بين علم الإنسان وبين علم الواحد الديان ؟ شتان بين علم مقيد محدود، وبين علم مطلق بلا حدود، سبحانه وتعالى كامل في علمه، وطلاقة وصفه، علمه فوق كل علم، قال تعالى:
﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
( سورةيوسف )
فالله عز وجل عليم بما كان، وعليم بما يكون، وعليم بما سيكون، وعليم بما لم يكن لو كان كيف كان يكون، لم يزل عالماً، ولا يزال عالماًَ، وعلمه أزلي وأبدي، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، أحاط علمه بجميع خلقه، أحاط علمه بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، دقيقها وجليلها.
واسم الله "العليم" اشتمل على مراتب العلم الإلهي.
علم الله عز وجل أزلي أبدي و علم الإنسان حادث وطارئ:
الله جلّ جلاله محيط بكل شيء علماً، في الظاهر وفي الباطن، في دقائق الأشياء، وفي جليلها، في أولها، وفي آخرها، في فاتحتها، وفي عاقبتها، ومع ذلك فعلم الله جل جلاله من طبيعة أخرى.
الآن أن مضطر أن أضرب مثلاً للتوضيح وللتقريب، والأمثال نجدها بكثرة في القرآن الكريم:
لو أن رجلاً عبقرياً اخترع آلة فائقة، عظيمة النفع، وجاء من بعده أجيال ودرسوا هذه الآلة، وعرفوا دقائق صنعها، واكتشفوا العلاقات فيما بين أجزائها، واكتشفوا القوانين التي على أساسها بنيت هذه الآلة، علم الجيل اللاحق الذي بحث، ودرس، واستنبط يختلف اختلافاً كلياً عن علم العبقري الذي اخترع الآلة، علم المخترع سبق وجود الآلة، لكن علم الدارس جاء بعد وجود الآلة، وجاء استنباطاً من دقائقها.
هذا المثل ضربه عالم جليل، علم الله سابق للوجود، علم الله أصل للوجود، بينما علم البشر لاحق للوجود، بل هو مكتسب من الوجود، فرق كبير بين علم الله، وبين علم خلقه، علمك أيها الإنسان مستنبط من الوجود، مستنبط من القواعد التي قعدها الله عز وجل، مستنبط من القوانين التي قننها الله عز وجل، مكتسب من الخصائص التي خصصها الله عز وجل، علم الله عز وجل أزلي أبدي، أما علمك حادث وطارئ.
العلم الإلهي سبب وجود الأشياء:
أيها الأخوة، علم الله هو الذي قنن هذه القوانين، هو الذي خصص هذه الأشياء بخصائصها، هو الذي سنن هذه السنن، فرق كبير بين أن تكتشف الخصائص الثابتة في شيء موجود، وبين أن تخلق هذه الخصائص.
من قنن أن البذور لابدّ منها لاستمرار الوجود ؟ لو الله خلق مليار، مليار، مليار، مليار، طن قمح وانتهوا، كيف القمح مستمر إلى قيام الساعة ؟ عن طريق البذور ، فكرة البذور من خلقها ؟ فكرة الزواج والإنجاب من خلقها ؟ نحن نستنبط لكن الله خلق، قنن، قعد القواعد، سنن السنن، قنن القوانين.
لذلك فرق كبير أن توجد شيئاً من العدم، ومن غير مثال سابق، وبين أن تكتشف خصيصة في شيء موجود، من هنا نقول الله عز وجل خلق كل شيء من لا شيء وعلى غير مثال سابق.
بل الإنسان إذا سميناه تجاوزاً، وقد سماه القرآن تجاوزاً خالق، قال الله:
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
( سورةالمؤمنون )
فإذ سميناه خالقاً تجاوزاً فهو صنع من كل شيء وعلى مليون مثال سابق ، الغواصة صنعت تقليداً للسمكة، والطائرة صنعت تقليداً للطائر، بل هناك موسوعة علمية تتحدث عن الطيور إن أعظم طائرة صنعها الإنسان لا ترقى إلى مستوى الطائر.
أيها الأخوة، علم البشر لاحق للوجود، كسبي، وعلم الخالق سابق للوجود وسببي، العلم الإلهي سبب وجود الأشياء، تعلق علمه بهذا الشيء، تعلقت إرادته، تعلقت قدرته، فكان هذا الشيء.
(( ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن ))
[أخرجه أبو داود عن بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم ]
وقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ما شاء الله وشئت، قال: بئس الخطيب أنت، جعلتني لله نداً،
(( ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن ))
علم الخالق سابق للوجود وسببي وعلم البشر لاحق للوجود وكسبي:
إذاً تعلق علم الله وإرادته، وقدرته بشيء فكان، ما شاء الله كان، بل إن علمه سبب لوجود هذا الشيء، أما علم البشر لاحق للوجود، هناك جبال، هناك أنهار، بحيرات ، عرفنا خصائص المياه، خصائص الهواء، عرفنا خصائص المياه صنعنا الباخرة، من جعل الماء يدفع الأجسام إلى الأعلى ؟ لولا هذا القانون قانون أرخميدس لما كان إبحار في الأرض، ولولا قوانين الهواء، الآن الطائرة تحمل ثمانمئة راكب، مدينة، ما الذي يحملها ؟ الهواء، الإنسان صنع وفق خصائص الماء البواخر، هناك بواخر فيها مليون طن، مدن، كل معلومات الإنسان، وكل علم الإنسان مستنبط من القواعد لتي قعدها الله، ومن القوانين التي قننها الله، ومن السنن التي سنها الله، ومن العلاقات الثابتة التي ثبتها الله، ومن الخصائص التي خص بها الأشياء.
إذاً فرق كبير بين أن تقول الله جل جلاله عليم، وفلان عليم، مع أن الله سمح في قرآنه،
﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾
أيها الأخوة، في لقاء آخر إن شاء الله نتابع هذا البحث.
والحمد لله رب العالمين