بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية لابد من التنبيه على أمر مهم، وهو أن هناك فرقا عظيما بين إنكار عالم الذر وأخذ الميثاق على آدم وذريته، وبين إنكار كون ذلك تفسيرا لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {الأعراف: 172}.
وأن الميثاق الثابت في السنة هو الميثاق الذي تشير إليه الآية.
فأهل السنة من حيث الجملة يؤمنون بالميثاق وعالم الذر، كما قال الطحاوي في عقيدته: والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. اهـ.
ولكنهم قد اختلفوا في كونه تفسيرا للآية، وجمهورهم يفسر الآية بذلك؛ للأحاديث والآثار المروية فيه، وبعضهم ينكر ذلك ويفرق بين الميثاق المشار إليه في الآية وبين الميثاق الثابت في الأحاديث والآثار، ويضعف ما جاء منها مصرحا بالإشهاد عليهم في عالم الذر، ويفسر الإشهاد في الآية بالفطرة على التوحيد، ويقصر دلالة الأحاديث على إثبات القدر السابق واستخراج صور بني آدم وتميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وهذا ما قرره ابن القيم في (أحكام أهل الذمة) حيث قصر دلالة الأحاديث الصحيحة على ذلك ثم قال: وأما الآثار التي فيها أنه استنطقهم وأشهدهم وخاطبهم فهي بين موقوفة ومرفوعة لا يصح إسنادها ... وبالجملة فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم وحصولهم في القبضتين كثيرة لا سبيل إلى ردها وإنكارها، ويكفي وصولها إلى التابعين فكيف بالصحابة ! ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين، ولكن الذي دل عليه الصحيح من هذه الآثار إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالهم أو أعيانهم، فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ولا يدل عليه القرآن. اهـ.
وهذا هو ما رجحه جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز الحنفي وابن كثير وغيرهم، ومن هؤلاء الأستاذ رشيد رضا الذي نقل السائل فحوى كلامه دون أن يصرح باسمه، حيث قال في تفسير المنار: والمعنى واذكر أيها الرسول في إثر ذكر ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطناً بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلومات، سلطاناً أعلى على جميع الكائنات، وهو الأول والآخر، هو المستحق للعبادة وحده .. وهذا معنى قوله تعالى: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) أي أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلاً قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا. فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل، وهو أعلى أساليب البلاغة وشواهده في القرآن وكلام البلغاء كثيرة. اهـ.
وعلق على ذلك صاحب كتاب (منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة) فقال: وبهذا يميل الشيخ رشيد إلى أحد القولين في تفسير هذا الميثاق، وهو الرأي القائل بأن استخراج الذرية هو خلقه تعالى لها جيلاً بعد جيل على ترتيبهم في الوجود، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، ودلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل .. وهذا الرأي قد قال به من قبله بعض السلف، ومن القائلين به: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وأما الرأي الثاني، وهو المؤيد بالأحاديث المرفوعة والموقوفة فهو: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق. اهـ.
ثم قال: ومن واجبي الآن أن أبين للقراء، أن الرأي الثاني هو الصواب، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، المرفوعة والموقوفة، ومنها وأصرحها حديث ابن عباس وقد صح مرفوعاً، فوجب المصير إليه وطرح ما سواه، ومما يؤيد المرفوع الآثار الموقوفة، وعدم بيان الميثاق في بعض الأحاديث ليس مستلزماً لعدمه. اهـ.
ورجح ذلك أيضا العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان) وقال: هذا الوجه يدل له الكتاب والسنة ... اهـ. ثم بين ذلك. وكذلك الشيخ الألباني في تعليقه على حديث ابن عباس مرفوعا: أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال : { ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }. (السلسلة الصحيحة 1623).
وهذا هو الراجح إن شاء الله، وأن الإشهاد في الآية حقيقي، سواء أكان ذلك خاصا بالأرواح أو كان لها في أجسادها.
قال ابن القيم في كتاب (الروح): قال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت. وقال الجرجانى: ليس بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته" وبين الآية اختلاف بحمد الله؛ لأنه عز و جل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم لذريته بعضهم من بعض، وقوله تعالى: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) أي عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق .. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد، إن الأرواح هي التي تعقل وتفهم ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم، قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة، قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم. اهـ.
وكلام الإمام ابن راهويه نقله أيضا الحافظ ابن عبد البر في (التمهيد) ثم قال بعد بحث المسألة: ومعنى الآية والحديث أنه أخرج ذرية آدم من ظهره كيف شاء ذلك، وألهمهم أنه ربهم فقالوا: بلى، لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم تابعهم بحجة العقل عند التمييز، وبالرسل بعد ذلك؛ استظهارا بما في عقولهم من المنازعة إلى خالق مدبر حكيم يدبرهم بما لا يتهيأ لهم ولا يمكنهم جحده، وهذا إجماع أهل السنة والحمد لله. اهـ.
ثم بعد ذلك لزم التنبيه على أن إنكار عالم الذر بالكلية، وأنه لم يُستخرج بنو آدم من ظهره ولا أخذ عليهم ميثاق، أن هذا القول غلط، وأن الأحاديث والآثار ترده، وأن اتفاق أهل السنة على خلافه، ولذلك نسبه الحافظ ابن عبد البر لأهل البدع.
فقال في (التمهيد): وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قول الله عز و جل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم .. ) قالوا: ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم، وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم، وما استخرج قط من ظهر آدم من ذرية تخاطب. اهـ.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية: أهل السنة والجماعة اختلفوا جدا في مسألة الميثاق، مع اتفاقهم على حصول الاستخراج من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليه. اهـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 64324 ، 106739.
والله أعلم.
قوله : ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ) .
ش : قال تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) [ ص: 303 ] . أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو . وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال ، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم :
فمنها : ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان - يعني : عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا . إلى قوله : المبطلون .
[ ص: 304 ] ورواه النسائي أيضا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وروى الإمام أحمد أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله عز وجل ] إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار . ورواه أبو داود ، والترمذي ، [ ص: 305 ] والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في صحيحه .
[ ص: 306 ] وروى الترمذي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم مسح على ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم ، فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له : داود ، قال : رب ، كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاء ملك الموت ، قال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم ، قال : فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر [ ص: 307 ] آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا . وأخرجاه في الصحيحين أيضا .
وفي ذلك أحاديث أخر أيضا كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل النار وأهل الجنة .
ومن هنا قال من قال : إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد . وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا ، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها ، واستخرج تلك الصور من مادتها ، ثم أعادها إليها ، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ، ولا يدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة ، كما قاله ابن حزم . فهذا لا تدل الآثار عليه ، نعم ، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة ، كما قاله على الوجه الذي سبق به التقدير أولا ، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق ، كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته ، فإنه قدر لها أقدارا وآجالا ، وصفات وهيئات ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق .
فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق ، وبعضها يدل [ ص: 308 ] على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة .
وأما الإشهاد عليهم هناك ، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وعمر رضي الله عنهم . ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرتهم على التوحيد ، كما تقدم كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ومعنى قوله شهدنا : أي قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا . وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب . وقال ابن عباس أيضا : أشهد بعضهم على بعض . وقيل : شهدنا من قول الملائكة ، والوقف على قوله بلى . وهذا قول مجاهد والضحاك وقال السدي أيضا : هو خبر من الله تعالى عن نفسه [ ص: 309 ] وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . والأول أظهر ، وما عداه احتمال لا دليل عليه ، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول .
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم ، كالثعلبي والبغوي وغيرهما . ومنهم من لم يذكره ، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، كالزمخشري وغيره ، ومنهم من ذكر القولين ، كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم ، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة ، والثاني إلى المعتزلة .
ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول ، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم ، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم ، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث ، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار ، كما في [ ص: 310 ] حديث عمر رضي الله عنه ، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد ، كما في حديث أبي هريرة . والذي فيه الإشهاد - على الصفة التي قالها أهل القول الأول - موقوف على ابن عباس وعمر ، وتكلم فيه أهل الحديث ، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين والحاكم معروف تساهله رحمه الله .
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر . وذلك شواهده كثيرة ، ولا نزاع فيه بين أهل السنة ، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون .
وأما الأول : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف ، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك ، وما قيل من الكلام عليها ، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة .
قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك ، حسب ما وقفنا عليه . فقال قوم : معنى الآية : أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض ، [ قالوا ] ومعنى أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، دلهم على توحيده ، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا . ألست بربكم أي : [ ص: 311 ] قال ، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض : قالتا أتينا طائعين ( فصلت : 11 ) ، ذهب إلى هذا القفال وأطنب . وقيل : إنه سبحانه وتعالى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها . ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك ، إلى آخر كلامه .
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول : حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه : قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . ولكن قد روي من طريق أخرى : قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار . وليس فيه : في ظهر آدم . وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول .
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين :
أحدهما : كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة .
[ ص: 312 ] والثاني : أن الآية دلت على ذلك ، والآية لا تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه قال : من بني آدم ، ولم يقل : من آدم .
الثاني : أنه قال : من ظهورهم ، ولم يقل : من ظهره ، وهذا بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، وهو أحسن .
الثالث : أنه قال : ذرياتهم ولم يقل : ذريته .
الرابع : أنه قال : وأشهدهم على أنفسهم ، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به ، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار - كما تأتي الإشارة إلى ذلك - لا يذكر شهادة قبله .
الخامس : أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( النساء : 165 ) .
السادس : تذكيرهم بذلك ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت ، فهذا لا يذكره أحد منهم .
[ ص: 313 ] السابع : قوله تعالى : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ( الأعراف : 173 ) ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد ؛ لئلا يدعوا الغفلة ، أو يدعوا التقليد ، فالغافل لا شعور له ، والمقلد متبع في تقليده لغيره . ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة .
الثامن : قوله : أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( الأعراف : 173 ) ، أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك ، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم ، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل .
التاسع : أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه ، واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه ، كقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( لقمان : 25 ) ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها ، وذكرتهم بها رسله ، بقولهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ( إبراهيم : 10 ) .
[ ص: 314 ] العاشر : أنه جعل هذا آية ، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها [ بحيث لا يتخلف عنها المدلول ] وهذا شأن آيات الرب تعالى ، [ فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به ] فقال تعالى : وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( الأعراف : 174 ) ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، فما من مولود إلا يولد على الفطرة ، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة ، هذا أمر مفروغ منه ، لا يتبدل ولا يتغير . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا . والله أعلم .
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره ، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم . وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني ، وتكلم عليه ومال إليه .
فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل ، فإنه مركوز في الفطر . وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة ، وقد خرج من بين الصلب والترائب ، والترائب : عظام الصدر ، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين ، في ظلمات ثلاث ، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق ، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق ، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئا لم يقدروا . ومحال توهم عمل الطبائع فيها ، لأنها موات عاجزة ، ولا توصف بحياة ، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير ، فإذا تفكر في ذلك وانتقال [ ص: 317 ] هذه النطفة من حال إلى حال ، علم بذلك توحيد الربوبية ، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية . فإنه إذا علم بالعقل أن له ربا أوجده ، كيف يليق به أن يعبد غيره ؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقينا وتوحيدا ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية لابد من التنبيه على أمر مهم، وهو أن هناك فرقا عظيما بين إنكار عالم الذر وأخذ الميثاق على آدم وذريته، وبين إنكار كون ذلك تفسيرا لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {الأعراف: 172}.
وأن الميثاق الثابت في السنة هو الميثاق الذي تشير إليه الآية.
فأهل السنة من حيث الجملة يؤمنون بالميثاق وعالم الذر، كما قال الطحاوي في عقيدته: والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. اهـ.
ولكنهم قد اختلفوا في كونه تفسيرا للآية، وجمهورهم يفسر الآية بذلك؛ للأحاديث والآثار المروية فيه، وبعضهم ينكر ذلك ويفرق بين الميثاق المشار إليه في الآية وبين الميثاق الثابت في الأحاديث والآثار، ويضعف ما جاء منها مصرحا بالإشهاد عليهم في عالم الذر، ويفسر الإشهاد في الآية بالفطرة على التوحيد، ويقصر دلالة الأحاديث على إثبات القدر السابق واستخراج صور بني آدم وتميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وهذا ما قرره ابن القيم في (أحكام أهل الذمة) حيث قصر دلالة الأحاديث الصحيحة على ذلك ثم قال: وأما الآثار التي فيها أنه استنطقهم وأشهدهم وخاطبهم فهي بين موقوفة ومرفوعة لا يصح إسنادها ... وبالجملة فالآثار في إخراج الذرية من ظهر آدم وحصولهم في القبضتين كثيرة لا سبيل إلى ردها وإنكارها، ويكفي وصولها إلى التابعين فكيف بالصحابة ! ومثلها لا يقال بالرأي والتخمين، ولكن الذي دل عليه الصحيح من هذه الآثار إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم، وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هو أمثالهم أو أعيانهم، فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث التي تقوم بها الحجة ولا يدل عليه القرآن. اهـ.
وهذا هو ما رجحه جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز الحنفي وابن كثير وغيرهم، ومن هؤلاء الأستاذ رشيد رضا الذي نقل السائل فحوى كلامه دون أن يصرح باسمه، حيث قال في تفسير المنار: والمعنى واذكر أيها الرسول في إثر ذكر ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطناً بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلومات، سلطاناً أعلى على جميع الكائنات، وهو الأول والآخر، هو المستحق للعبادة وحده .. وهذا معنى قوله تعالى: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) أي أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلاً قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا. فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل، وهو أعلى أساليب البلاغة وشواهده في القرآن وكلام البلغاء كثيرة. اهـ.
وعلق على ذلك صاحب كتاب (منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة) فقال: وبهذا يميل الشيخ رشيد إلى أحد القولين في تفسير هذا الميثاق، وهو الرأي القائل بأن استخراج الذرية هو خلقه تعالى لها جيلاً بعد جيل على ترتيبهم في الوجود، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، ودلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل .. وهذا الرأي قد قال به من قبله بعض السلف، ومن القائلين به: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وأما الرأي الثاني، وهو المؤيد بالأحاديث المرفوعة والموقوفة فهو: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق. اهـ.
ثم قال: ومن واجبي الآن أن أبين للقراء، أن الرأي الثاني هو الصواب، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، المرفوعة والموقوفة، ومنها وأصرحها حديث ابن عباس وقد صح مرفوعاً، فوجب المصير إليه وطرح ما سواه، ومما يؤيد المرفوع الآثار الموقوفة، وعدم بيان الميثاق في بعض الأحاديث ليس مستلزماً لعدمه. اهـ.
ورجح ذلك أيضا العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان) وقال: هذا الوجه يدل له الكتاب والسنة ... اهـ. ثم بين ذلك. وكذلك الشيخ الألباني في تعليقه على حديث ابن عباس مرفوعا: أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال : { ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا إنما أشرك أباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }. (السلسلة الصحيحة 1623).
وهذا هو الراجح إن شاء الله، وأن الإشهاد في الآية حقيقي، سواء أكان ذلك خاصا بالأرواح أو كان لها في أجسادها.
قال ابن القيم في كتاب (الروح): قال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد والنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت. وقال الجرجانى: ليس بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته" وبين الآية اختلاف بحمد الله؛ لأنه عز و جل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم لذريته بعضهم من بعض، وقوله تعالى: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) أي عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودا عليهم بأخذ الميثاق .. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاق إنما أخذ على الأرواح دون الأجساد، إن الأرواح هي التي تعقل وتفهم ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد أموات لا تعقل ولا تفهم، قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة، قال إسحاق: وأجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم. اهـ.
وكلام الإمام ابن راهويه نقله أيضا الحافظ ابن عبد البر في (التمهيد) ثم قال بعد بحث المسألة: ومعنى الآية والحديث أنه أخرج ذرية آدم من ظهره كيف شاء ذلك، وألهمهم أنه ربهم فقالوا: بلى، لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. ثم تابعهم بحجة العقل عند التمييز، وبالرسل بعد ذلك؛ استظهارا بما في عقولهم من المنازعة إلى خالق مدبر حكيم يدبرهم بما لا يتهيأ لهم ولا يمكنهم جحده، وهذا إجماع أهل السنة والحمد لله. اهـ.
ثم بعد ذلك لزم التنبيه على أن إنكار عالم الذر بالكلية، وأنه لم يُستخرج بنو آدم من ظهره ولا أخذ عليهم ميثاق، أن هذا القول غلط، وأن الأحاديث والآثار ترده، وأن اتفاق أهل السنة على خلافه، ولذلك نسبه الحافظ ابن عبد البر لأهل البدع.
فقال في (التمهيد): وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قول الله عز و جل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم .. ) قالوا: ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم، وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم، وما استخرج قط من ظهر آدم من ذرية تخاطب. اهـ.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الطحاوية: أهل السنة والجماعة اختلفوا جدا في مسألة الميثاق، مع اتفاقهم على حصول الاستخراج من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليه. اهـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 64324 ، 106739.
والله أعلم.
قوله : ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ) .
ش : قال تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) [ ص: 303 ] . أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو . وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال ، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم :
فمنها : ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان - يعني : عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا . إلى قوله : المبطلون .
[ ص: 304 ] ورواه النسائي أيضا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وروى الإمام أحمد أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله عز وجل ] إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار . ورواه أبو داود ، والترمذي ، [ ص: 305 ] والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في صحيحه .
[ ص: 306 ] وروى الترمذي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم مسح على ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم ، فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له : داود ، قال : رب ، كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاء ملك الموت ، قال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .
وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم ، قال : فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر [ ص: 307 ] آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا . وأخرجاه في الصحيحين أيضا .
وفي ذلك أحاديث أخر أيضا كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل النار وأهل الجنة .
ومن هنا قال من قال : إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد . وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا ، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها ، واستخرج تلك الصور من مادتها ، ثم أعادها إليها ، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ، ولا يدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة ، كما قاله ابن حزم . فهذا لا تدل الآثار عليه ، نعم ، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة ، كما قاله على الوجه الذي سبق به التقدير أولا ، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق ، كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته ، فإنه قدر لها أقدارا وآجالا ، وصفات وهيئات ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق .
فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق ، وبعضها يدل [ ص: 308 ] على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة .
وأما الإشهاد عليهم هناك ، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وعمر رضي الله عنهم . ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرتهم على التوحيد ، كما تقدم كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ومعنى قوله شهدنا : أي قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا . وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب . وقال ابن عباس أيضا : أشهد بعضهم على بعض . وقيل : شهدنا من قول الملائكة ، والوقف على قوله بلى . وهذا قول مجاهد والضحاك وقال السدي أيضا : هو خبر من الله تعالى عن نفسه [ ص: 309 ] وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . والأول أظهر ، وما عداه احتمال لا دليل عليه ، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول .
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم ، كالثعلبي والبغوي وغيرهما . ومنهم من لم يذكره ، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، كالزمخشري وغيره ، ومنهم من ذكر القولين ، كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم ، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة ، والثاني إلى المعتزلة .
ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول ، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم ، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم ، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث ، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار ، كما في [ ص: 310 ] حديث عمر رضي الله عنه ، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد ، كما في حديث أبي هريرة . والذي فيه الإشهاد - على الصفة التي قالها أهل القول الأول - موقوف على ابن عباس وعمر ، وتكلم فيه أهل الحديث ، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين والحاكم معروف تساهله رحمه الله .
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر . وذلك شواهده كثيرة ، ولا نزاع فيه بين أهل السنة ، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون .
وأما الأول : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف ، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك ، وما قيل من الكلام عليها ، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة .
قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك ، حسب ما وقفنا عليه . فقال قوم : معنى الآية : أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض ، [ قالوا ] ومعنى أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، دلهم على توحيده ، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربا واحدا . ألست بربكم أي : [ ص: 311 ] قال ، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض : قالتا أتينا طائعين ( فصلت : 11 ) ، ذهب إلى هذا القفال وأطنب . وقيل : إنه سبحانه وتعالى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها . ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك ، إلى آخر كلامه .
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول : حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه : قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . ولكن قد روي من طريق أخرى : قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد إلى النار . وليس فيه : في ظهر آدم . وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول .
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين :
أحدهما : كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة .
[ ص: 312 ] والثاني : أن الآية دلت على ذلك ، والآية لا تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه قال : من بني آدم ، ولم يقل : من آدم .
الثاني : أنه قال : من ظهورهم ، ولم يقل : من ظهره ، وهذا بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، وهو أحسن .
الثالث : أنه قال : ذرياتهم ولم يقل : ذريته .
الرابع : أنه قال : وأشهدهم على أنفسهم ، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به ، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار - كما تأتي الإشارة إلى ذلك - لا يذكر شهادة قبله .
الخامس : أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( النساء : 165 ) .
السادس : تذكيرهم بذلك ، لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت ، فهذا لا يذكره أحد منهم .
[ ص: 313 ] السابع : قوله تعالى : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ( الأعراف : 173 ) ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد ؛ لئلا يدعوا الغفلة ، أو يدعوا التقليد ، فالغافل لا شعور له ، والمقلد متبع في تقليده لغيره . ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة .
الثامن : قوله : أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( الأعراف : 173 ) ، أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك ، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم ، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل .
التاسع : أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه ، واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه ، كقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( لقمان : 25 ) ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها ، وذكرتهم بها رسله ، بقولهم : أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ( إبراهيم : 10 ) .
[ ص: 314 ] العاشر : أنه جعل هذا آية ، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها [ بحيث لا يتخلف عنها المدلول ] وهذا شأن آيات الرب تعالى ، [ فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به ] فقال تعالى : وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( الأعراف : 174 ) ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، فما من مولود إلا يولد على الفطرة ، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة ، هذا أمر مفروغ منه ، لا يتبدل ولا يتغير . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا . والله أعلم .
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره ، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم . وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني ، وتكلم عليه ومال إليه .
فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل ، فإنه مركوز في الفطر . وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة ، وقد خرج من بين الصلب والترائب ، والترائب : عظام الصدر ، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين ، في ظلمات ثلاث ، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق ، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق ، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئا لم يقدروا . ومحال توهم عمل الطبائع فيها ، لأنها موات عاجزة ، ولا توصف بحياة ، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير ، فإذا تفكر في ذلك وانتقال [ ص: 317 ] هذه النطفة من حال إلى حال ، علم بذلك توحيد الربوبية ، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية . فإنه إذا علم بالعقل أن له ربا أوجده ، كيف يليق به أن يعبد غيره ؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقينا وتوحيدا ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه .