نحن نعلم جميعاً أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كابد مشاق الدعوة إلى الله في مكة، وتحمل ما تنوء به الجبال؛ من إيذاء أهلها تارة، ومن حصارهم له ولصحبه في شعب أبى طالب ثـلاث سنين كاملة، ثم تحمل بعد ذلك إيذاء العرب عندما كان يتعرَّض لهم في أسواقهم بالقرب من مكة، ثم بعد ذلك لم يكلّ ولم يملّ،

وواصل دعوته إلى الله عزَّ وجلَّ، متحملاً في سبيل ذلك ما لا يتحمله جنُّ، ولا ملك، ولا بشر سواه، لأن الله عزَّ وجلَّ أعدَّه، وجهزه، وأهَّله، وقواه لتبليغ دعوة الله عزَّ وجلَّ

فذهب إلى الطائف، وبلَّغ الدعوة لأهلها، ولكنهم أعرضوا، ثم رجع مرة أخرى، وهنا بيَّن لنا الله السرَّ الذي من أجله اصطفاه صلَّى الله عليه وسلم، وأهَّله لمقام قاب قوسين أو أدنى

( نزل له الأمين جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال، وقال له: يا محمد، هذا ملك الجبال، وهو طوع أمرك، فمره بما شئت، فقال ملك الجبال: يا محمد، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) وهما الجبلان المحيطان بمكةفماذا كان ردُّه؟ وماذا كانت إجابته؟

وهذا سرُّ اصطفائه من مولاه، وهو السبب الذي من أجله حباه وقربه وأدناه ماذا قال صلَّى الله عليه وسلم بعد أن ألاح الله له الفرصة لينتقم له ممن عاداه وآذاه ، وأصبح الأمر مهيَّأ أن يشفي صدره إذا كان به غيظ من أعدائه قال صلَّى الله عليه وسلَّم :
( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابـــهم من يعبـــد الله وحـــده ، لا يشرك به شيئا )(1)

فعرَّف الله عزَّ وجلَّ الملائكة الكرام.ثم أخذه إلى النبيين عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
ثم أخذه ليعرضه على الملأ الأعلى، ويعلمهم أنه اصطفى هذا الحبيب إلى مقام لم يصل إليه في الدنوِّ من حضرة الله قريب، وجعله قاب قوسين أو أدنى.

لأنه بلغ في مقام الأخلاق الإلهية، والكمالات الربانية، مقاماً لم يصل إليه سواه، في العفو عمن آذاه، وفي الصبر على تبليغ دعوة الله، وفي التسامح مع هؤلاء البدو الحفاة، الذين أذاقوه مرارة شديدة لا يتحملها بشر في دعوة الله

سبحانه وتعالى.فأخذه الله وحباه، وكأنما كان ذلك هو الوسام الذي قال فيه الله:
? وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ? (4سورة القلم)

وما دام قد بلغ هذا المقام العظيم في الخلق، فقد تفضَّل عليه الله بنوال هذا المقام الكريم في القرب من الله عزَّ وجلَّ .

أي أن سرَّ الاصطفاء للمقامات الإلهية، لمن يريد أن يكون قريباً من ربِّ البريَّـة، والسرُّ لمن يريد أن يلبس تاج الولاية، أو يخلع الله عزَّ وجلَّ عليه خلع العناية، أو يطرِّزه بطرز المقربين، أو يجمِّله بجمال المحبوبين: أن يكون

ظاهراً وباطناً على خلق سيد الأولين والآخرين صلَّى الله عليه وسلم.
فإذا استطاع العبد أن يجاهد نفسه في هذا المقام، نال هذا المرام، وكان من المجتبين المصطفين على قدم الوراثة لسيد الأنام صلَّى الله عليه وسلم.

فإن باب الجهاد في العبادات؛ هو لنيل الدرجات العالية في الجنَّات، وللحظوة بالحسنات والدرجات يوم الميقات.

لكن الوصول لمناصب الولاية، ومنازل العناية؛ لا يكون إلا بالأخلاق الكريمة؛ التي كان عليها الحبيب الأعظم صلَّى الله عليه وسلم، وهذا سـرُّ الدنوِّ، وهذا سرُّ القرب فإذا جمَّل العبد بهذه الأخلاق الكريمة؛ وأبهاها ، وأعلاها ، وأرقاها أن يكون صدره وقلبه يخلوان من الغلِّ، والغشِّ، والحقد، والغيظ على خلق الله، ولذلك؛ فإن أول درجات الأولياء يقول فيها ربُّ العزة في قرآنه:
? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ? (43سورة الأعراف)

ليس في صدورهم غلٌّ ولا حقد لأحد يقول ربُّ العزة عزَّ شأنه، فيما ورد لسيدنا إبراهيم عليه السلاممقام قاب قوسين  Frown أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: " أَنْ يَا خَلِيلِي، حَسِّنْ خُلُقَكَ وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ تَدْخُلْ مَدْخَلَ الأَبْرَارِ (2)
ويقول الإمام أحمد البدوي رَضِيَ الله عنه:
{ التصوف حسن الخلق، فكل من زاد عليك في حسن الخلق فقد زاد عليك في الصفاء }

وحسن الخلق لا يكون إلا بالعمل بكتاب الله، والتأسي بحبيب الله ومصطفاة، وأعلاه وأرقاه أن يعمل بقول حبيب الله ومصطفاة فى معنى حديثه الشريف :
( إنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ كَانَ عَلَى خُلُقِهِ )

وفي ذلك يقول إمامنا أبو العزائم رَضِيَ الله عنه :
تخلَّق بأخلاق الإله وحافظن
على منهج المختار في العقد تنسق


فالإنسان الذي ما زال يحنق على هذا، ويغتاظ من هذا لشيء في نفسه، ويحدث في صدره كمدٌ أو همٌ من فلان أو فلانة، لشيء في نفسه:

فإن مثل هذا يحتاج إلى المراهم القرآنيَّة، وإلى البراشيم المحمديَّة؛ حتى يكون كما قال الله في عباده في الآيات القرآنية:
? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? (134سورة آل عمران)


(1)عن عائشة رضى الله عنها فيما رواه البخارى - وقد آثرنا أن نترك القصة أعلاه كما جاءت بالدرس لتناسق الحديث - ونورد الرواية هنا كما رواها الإمام البخارى: ( أن عائشة رضيَ الله عنها قالت للنبي صلَّى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً ).
(2)أبو نعيم الأصفهانى فى الأربعون على مذهب المتحققين من الصوفية عن أبى هريرة رَضِيَ الله عنه، وتتمته ( فَإِنْ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أَنْ أُظِلَّهُ فِي عَرْشِي، وَأَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ حَظِيرَةِ قُدْسِي ). وعنه رَضِيَ الله عنه فى المعجم الأوسط للطبرانى، وفيها زيادة: (وَأَنْ أُدْنِيَهُ مِنْ جِوَارِي ).