بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله
التصوف السني :
والمراد بهذا النوع من التصوف هو ما كان قرين الزهد والتقلل من متاع الدنيا وملذاتها وهو امتداد لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وإن كان هذا الزهد لم يعرف باسم التصوف إلا في أواخر القرن الثاني الهجري فإن أصله ومعناه وحقيقته
كان معروفاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حث على ذلك القرآن الكريم في كثير من آي الكتاب الحكيم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5].
وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:65].وكذلك كثر ذكر الزهد في كتب الحديث والسنن وكثرت أبوابه، والناظر فيها يجدها قد اشتملت على أبواب كثيرة مثل باب الزهد في الدنيا ، باب فضل الجوع ، باب القناعة والعفاف، باب فضل البكاء من خشية الله …… والناظر في هذه الكتب يجد كثيراً من الأحاديث والآثار الواردة في الزهد ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)) وقوله صلى الله عليه وسلم ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك)) .
لذا لم يكن مستغرباً أن يزهد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في دنياهم، ولا تابعوهم والسلف الصالحين.
ولم يكن الزهد عن قلة المال وإنما الزاهد هو من جاءه المال فزهد فيه وأنفقه ولم يجعله كل همه.
مصادر التصوف السني:
1- القرآن الكريم:
والقرآن الكريم هو الأساس الذي يستمد منه كل علم شرعي شرعيته، وعليه يعتمد أهل الحـق فـي التمسك بحقهم. كما أن القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم وهو الكامل الشامل كما قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ٌ}[المائدة:3].
لذلك لم يهمل القرآن الدعوة إلى الزهد والتقلل من متاع الحياة الدنيا التي يضرب لها مثلاً بقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24].
وقال أيضاً: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:45- 46].
2- السنة النبوية:
والمصدر الثاني من مصادر هذا الدين هو السنة النبوية ، لذا فإن الناظر في كتب السنن وفى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بالدعوة إلى الزهد وإليك بعض المختارات من بستان النبوة الذي يعج ويحفل بوصف الدنيا ودنوها لطالبيها وأنها مزرعة الآخرة ولا تغنى عن الآخرة شيءاً.قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) .وقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) .وقال مبيناً تعاسة من تمسك بها وشغل نفسه بها: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وان لم يعط لم يرض)) . و قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) .وكان يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم ومتعلم)) ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، كيف لا وقد كانت تأتيه مرغمة فيردها إلى من هو دونه وينفقها، وقد قال: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا تمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء أرصده لدين)) .ويقـول النعمـان بـن بشيـر رضي الله عنه يصـف حـال النبـي صلى الله عليه وسلم كمـا ذكـر ذلك عنه قال: ((لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما يجد من الدقل (رديء التمر) ما يملأ به بطنه)) .وفى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير فأثـرّ فـي جنبـه فقـال له أصحابه رضى الله عنهم: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً. فقـال: " ما لى وللدنيـا ؟ مـا أنـا فـي الدنيـا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ حتى قبض)) . وفي رواية أخرى ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض)) .و((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ، ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه ، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)) .
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن نتأسى به ونقتفي أثره {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}[الممتحنة:6].
3- آثار الصحابة والتابعين:
عند الرجوع إلى أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين نرى فيهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بترك متاع الدنيا وزخرفها.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وليَّ الخلافة دفع كل ما له في بيت مال المسلمين، فلما سئل عن ذلك قال: كنت أتجر فيه فلما وليتموني شغلتوني عن التجارة وحين وليَّ الخلافة خرج إلى السوق ليعمل فقال له الصحابة رضي الله عنهم: نفرض لك ففرضوا له قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم، فكان له برداه للصيف والشتاء إن أخلقهما " أي قَدِمَا " وضعهما وأخذ مثلهما وظهره إذا سافر ، ونفقته على أهله كما كان ينفق عليهما قبل أن يُستخلف، فقال أبو بكر رضي الله عنه قد رضيت .
وكان عمر رضي الله عنه على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه فحين فتحت عليه الدنيا كلمتاه عائشة وحفصة رضي الله عنهما في تغيير جبته التي كانت فيها اثنتا عشرة رقعة ويقدم له طعام يأكل منه وأضيافة، فأبا وقال إن له أسوة بصاحبيه فلا يجمع بين أُدمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم ولما قدم له ما ء قد شيب بعسل فقال: إنه لطيِّب وقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}[الأحقاف:20]. فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه " .
وفي البداية والنهاية لابن كثير أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج بسيفه إلى السوق وقال: من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً ما بعته .
ورضي الله عن أبي الدرداء إذ يقول: والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد ، لا يخطئني فيه صلاة ، أربح فيه كل يوم أربعين ديناراً وأتصدق بها كلها في سبيل الله. قيل له: يا أبا الدرداء وما تكره في ذلك؟ قال: شدة الحساب .
والمتبع لقصص الصحابة في (الحلية) ، و(كنز العمال) ، و(البداية والنهاية) ، وكتب السنن يجد الشيء الكثير من ذلك وكذلك قصص التابعين.
من أعلام التصوف السني:
1- إبراهيم بن أدهم (199) بن منصور البلخي التميمي كنيته أبو اسحق، كان أبوه من ملوك خراسان وكان موسراً ، وعاش مترفاً منعماً ، وقد خرج إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه للصيد فسمع صوتاً يناديه فالتفت إليه فلم ير شيئا وتكرر ذلك معه ، ثم قال له المنادى: ما لهذا خلقت ولا بذا أمرت فعزم أن لا يعصي الله تعالى بعد ذلك ورجع إلى بيته فترك فرسه وعمد إلى أحد رعاة أبيه فأخذ منه جبةً وكساءً وتخل عن ثيابه وترك المتع.
خرج إلى العراق وإلى الشام طلباً للعمل وللرزق الحلال وتجول فيها وكان يأكل مـن عمل يده ، كان يعمل بالحصاد وجني الثمار وحفظ البساتين والحمل والطحن ، وكان إذا أنهي عملـه قبـل أن ينـام ينادي في الناس من يريد أن يطحن ؟ فيأتيه الناس فيطحن لهم بلا كراء.
أخذ عن كثير من علماء العراق والحجاز ، وكان قد تفقه ، وكان يشترك مع الغزاة في قتال الروم. وكان يتكلم الفصحة ولا يلحن في العربية ، وكان إذا وقف سفيان الثوري في مجلسه يعظ أوجز مخافة الزلل.
كان يلبس في الشتاء فرواً لا قميص تحته، وفى الصيف لا يتعمم ولا يحتذي، وكان يصوم في السفر والإقامة.
ولمـا سئل كم لك في الشام ؟ قال: أربعة وعشرون عاماً ، ولما سئل ما جاء بك إليها قال: لأشبع من خبز الحلال.
عمل في أحد البساتين سنين ، فجاءه صاحب البستان وطلب منه رماناً حلواً فجاءه به فوجده حامضاً فقال له: تأكل فاكهتنا سنين ولا تميز الحلو من الحامض. فأقسم أنه ما أكل فاكهتهم ولا يميز الحلو من الحامض.
وجاءه عبد لأبيه يحمل له عشرة آلاف درهم ، ويخبره أن أباه قد مات في بلخ وخلف له مالاً كثيراً، فأعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه.
هذا هو إبراهيم بن أدهم الذي ترك الدنيا ومتاعها طلباً لبحبوحة الجنة وقد توفي رحمه اللهسنة 161هـ –778م.
وأخباره كثيرة وفيها اختلاف في مسكنه ونسبته ووفاته.
2- عبد الله بن المبارك (200):
هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء التميمي المروزي ، يكنى بأبي عبد الرحمن وهو شيخ الإسلام ، كان من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ المذكورين بالزهد وقد جمع الحديث والفقه والعربية ، وأيام الناس والشجاعة والتجارة، والمحبة عند الفرق، كان من سكان خراسان ولد سنة 118 هـ، سمع سفيان الثوري وشعبه والأوزاعي والليث بن سعد، أفنى عمره في الأسفار حاجاً وتاجراً ومجاهداً ، كان سخياً ، وكان يقضي الدين عن المدينين، ويسعى في فك المحبوس، له كتاب في الجهاد وهو أول من صنف فيه.
مات بهيت على الفرات منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ.
قال الأوزاعى: لو رأيت ابن المبارك لقرت عينك.
وقال سفيان الثوري: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.
قال ابن المبارك: زيادة دنياكم بنقصان آخرتكم ، وزيادة آخرتكم بنقصان دنياكم. وكان يقول: أحب الصالحين ولست منهم ، وأبغض الطالحين وأنا شرٌ منهم.
وقال: الصمت أزين للفتـى من منطق في غيـر حينه ، والصدق أجمل بالفتى في القول عندي من يمينه.
وسئل ابن المبارك مَنْ الناس ؟ قال العلماء: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد. فمن سفلة الناس ؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
3- الفضيل بن عياض (201):
الفضيل بن عياض التميمي من بني يربوع ولد بخراسان ، قدم الكوفة وهو كبير كان ثقة ثبتاً فاضلاً عابداً ورعاً ، وكان من شدة الخوف نحيفاً.
كان كثير الحديث وسمع الحديث من منصور بن المعتمر وغيره ، وروى عنه ابن المبارك والشافعي وبشر الحافي وغيرهم. ثم تعبد وانتقل إلى مكة وكان لا يقبل هدايا الدولة.
وتوفى بمكة المكرمة سنة 187هـ في خلافة هارون الرشيد وكان ذلك يوم عاشوراء، وقد نيف على الثمانين عاماً. قال هارون الرشيد: ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل. وقال إبراهيم بـن الأشعت: كان الفضيل إذا ذكر الله ، أو
ذُكر عنده ، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكي حتى يرحمه من بحضرته. وقال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة يعظ ويذكر ويبكي كأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة فإذا وصلنا المقبرة جلس كأنه بين الموتى.
قال عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وللفضيل أقوال كثيرة في كتب التراجم منها:
" من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة "
" ليس من عبد أُعطي شيئا من الدنيا إلا كان نقصاناً له من الدرجات في الجنة "
" ليست الدار دار إقامة وإنما أُهبط آدم إليها عقوبة "
" لو خيرت لاخترت أن أعيش كلباً وأموت كلباً ولا أرى يوم القيامة "
وكان رحمه الله يكثر من صلاة الليل فيلقى إليه حصيـر فإذا غلبته عيناه استلقى عليه ثم يفيق يصلي ……
4- معروف الكرخي (202):
هو معروف بن فيروز " الفيرزان " الكرخى أبو محفوظ ولد في كرخ بغداد ونشأ فيها، كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدبهم فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول: بل هو الواحد فيضربه معلمه ضرباً مبرحاً فهرب وأسلم على يد على بن موسى الكاظم. وكان أبواه يقولان ليته يرجع على أي دين فنتبعه فرجع إليهما مسلماً فأسلما. وكان مولى من موالي علي بن موسى الكاظم وكان يحجبه فكثر الزحام فضغطه الناس فتكسرت أضلاعه فمات ببغداد سنة 200هـ.
لما حضرته الوفاة قيل له: أوصى. فقال: أوصى بقميصي إذا مت فتصدقوا به أريد أن أخرج منها عرياناً كما دخلتها.
وقبره ببغداد مشهور ويزار ويستشفع به ويتبرك به ويستسقى به " وهذا لا يصح " وكان رحمه الله مشهوراً بالصلاح مستجاب الدعوة حريصاً على الحق ، ذات يوم مر بسقاء يقول رحم الله من يشرب وكان صائماً فشرب طمعاً ببركة دعائه. قال رجل لمعروف الكرخى: ما شكرت معروفي. فقال: وقع معروفك من غير محتسب عند غير شاكر. وقال معروف الكرخى: " طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق ".
التصوف البدعي :
وهذا التصوف خليط من التصوف الإسلامي والتصوف الجاهلي، وقد يكون رجاله أهل علم وأصحاب نوايا حسنة ، وأثرت فيهم العادات السائدة في عصرهم وخاصة ما فيها من بدع.
بعضهم حاول إصلاح الطرق فلم يستطع فاضطروا إلى تأويل أعمالهم التي هي في الظاهر مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليوهموا الناس بأنها لا تعارض النصوص الشرعية وليسلموا من الطعون والانتقادات الموجهة إليهم.
وهؤلاء القوم ليس لهم تطلع لإقامة دين الله تعالى في الأرض بل هم يشغلون أنفسهم بأمور أهمها:
1- الاشتغال بالأذكار والأوراد وغالباً مـا تكـون طريقتهـم فـي الذكـر غير مطابقة للسنـة بـل تشتمـل على بعض البدع ، كأن يكون الذكر بصورة جماعيـة ، ويسبق بعضهـم بعضـاً ممـا يجعـل المسبـوق يتـرك بعض الكلمات التـي تخـل بالمعنى، إضافـة إلى الحركات المصطنعـة التي يحدثونها أثنـاء الذكـر مـن التمايـل والقفـز والتراقص.
كما أن أورادهم غالباً ما تشتمل على الاستشفاع والتوسل بالأولياء والصالحين والاستعانة بالمقبورين ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بالدعاء.
2- التربية والتزكية عن طريق النوافل، فهم غالباً يحرصون على الإكثار من صيام التطوع فبعضهم يتحرى صيام المندوبات والبعض يصوم زيادة على ذلك. وكذلك الصلوات فهم يكثرون من صلاة النافلة وقيام الليل بل يجعلوا لكل ليلة قيامًا مخصوصاً وتلاوة مخصوصة، ولا يجوز تخصيص يوم أو ليلة بعبادة مخصوصة إلا بدليل.
3- البيعة يهتم كثير من أصحاب الطرق الصوفية البدعية بأخذ البيعة من المريد وتكون البيعة على الطاعة المطلقة لشيخه، دون الاعتراض عليه.والطاعة المطلقة لا تصح إلا للمعصوم عليه السلام وكل بيعة لغيره يجب أن تكون مقيدة في حدود عدم المعصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) .
أبرز ما يميز هذا النوع من التصوف هو الوقوع في البدع.
أقسام البدعة:
البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة:
1- البدعة الحسنة أو السنة الحسنة وهي تكون في الجوانب الحياتية والتقدم العلمي التجريبي وفى الأمور التي تخضع للمصالح المرسلة "المصالح العامة التي لا نص فيها " كعمل صندوق للصدقات وبناء المستشفيات والمدارس التعليمية وما شابه ذلك. 2- البدعة السيئة وهي كل محدثة في دين الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة)) .
وقد وقع الصوفية في كثير من البدع والشركيات منها.
ما يكون من غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية
والذين يجعلون مع الله نداً يدعونه كما يدعو الله تعالى ويسألونه الشفاعة كما يسألون الله تعالى ، ويحبونه كما يحبون الله تعالى .وقد حذر صلى الله عليه وسلم مما هو أدنى من ذلك فحين قيل له عليه السلام " ما شاء الله وشئت ". قال: ((أجعلتنى لله عدلاً (نداً) بل ما شاء الله وحده)) .ومن ذلك أيضاً التبرك بالأماكن والأشخاص والأشجار وغير ذلك ، وقد طلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم شيئا من ذلك وهم حديثوا عهد بكفر وذلك حين خرجوا لغزوة حنين فمروا " بشجرة " بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قالوا: اجعل لنا شجرة كذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف:138] إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)) .
ومن ذلك الذبح للأولياء والصالحين ، وتقديم القرابين لهم ، والذبح عند قبورهم. وقد نهي الله تعالى عن ذلك وحذر من الوقوع في ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:162-163]وقال تعالى : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]وقال صلى الله عليه وسلم ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والده ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من غير منار الأرض)) .وقد نهي صلى الله عليه وسلم عن الذبح عند الأوثان أو في أماكن يقام فيها عيد جاهلي وذلك حين سُئل عن رجـل نذر أن يذبح إبلاً بأحد الأماكن فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد)) فقالوا: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟)) قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) .
ومنها الاستعاذة بالمقبورين والصالحين من الأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. والاستعاذة معناها الالتجاء والاعتصام والتحرز والهرب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه .
وقد أمرنا المولى عز وجل أن نستعيذ به قال تعالى : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36]وقال أيضاً: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:97- 98] وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1]و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1].
ومنها الاستغاثة بغير الله تعالى والاستغاثة طلب الغوث لإزالة الشدة كالاستنصار طلب النصرة ، والاستغاثة تمتاز عن الدعاء بأنها لا تكون إلا من المكروب قال تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال:9]
فقد وقع كثيرٌ من الصوفية والعوام في ذلك فمنهم من يدعو شيخه عند اشتداد الكروب فيقول: يا علي ، ويا عبد القادر ، ويا بدوي …… وأدى الغلو إلى أكثر من ذلك منهم من يسألهم الجنة وغفران الزلات …… حتى زعم أحدهم أن شيخة يجلس عند النار فلا يدع أحداً استغاثه يدخلها …… ونسجوا كثيراً من القصص المكذوبة فزعموا أن فلاناً استغاث شيخه فأغاثه ، أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو فرج كربته {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ الْقِيَامَةِ}[الأحقاف:5].
وممن وقع في ذلك البوصيري حيث قال:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
ولا يضيق رسول الله جاهك بي
إذ الكريـم تحلـى باسم منتقم
فإن لـي ذمـة منه بتسميتي
محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فقد وقع البوصيري بأخطاء كثيرة في أشعاره هذه منها: -
1- إنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الخطوب إلا الرسول عليه السلام وليس ذلك إلا لله.
2- تضـرع للرسـول عليـه السلام وناداه ودعاه وطلب منه أموراً لا تطلب إلا من الله عز وجل.
3- طلب منه الشفاعة عندما يريد الله تعالى الانتقام ولا يمنع ذلك أحد. قال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ}[الزمر:19].
4- ادعى أن له ذمة لأن اسمه محمد وهذا غير صحيح لأنه ليس بين الرسول عليه السلام ومن اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، وكم من الطغاة من سماه أهله بمحمد.
5- زعم أنه لا خلاص له إلاّ إذا تفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ بيده يوم القيامة، والخلاص والنجاة يوم القيامة تكون بفضل الله عليه.
وكذلك البرعي وقع في شيء من ذلك في قوله:
أرجوك في سكرات الموت أن تشهدني
كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلتُ ضريحــاً لا أنيس بــه
فكـن أنيس وحيـد فيه منفرد
وقال أيضاً:
يـا سيـدي يا رسول الله يا أملي
يـا موئلـي يا ملاذي يـوم يلقاني
هبني بجاهـك مـا قدمت من زلل
جوداً ورجح بفضل منك ميزانــي
واسمع دعائي واكشف ما يساورني
من الخطوب ونفّس كل أحزانــي
فأنت أقرب من ترجـى عواطفـه
عندي وإن بعدت داري و أوطاني
فقد وقع البرعي بأبياته هذه في أخطاء عدة منها: -
1- أنه يستغيث بالرسول عليه السلام ويطلب حضوره عند موته ليهون عليه سكرات الموت وهذا ليس إلا لله عز وجل.
2- وطلب من الرسول عليه السلام أن يؤنس وحشته في قبره وليس للعبد أنيس إلا العمل الصالح.
3- وطلب منه أن يرجح ميزانه يوم القيامة ولا يرجح الميزان إلا الإخلاص والعمل الصالح
4- وطلب منه عليه السلام أن يكشف عنه الضر والكربات ويهون عليه الحزن والخطوب.
5- وهو الذي يرجو عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم مهما بعدت الدار … والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرجى بعد موته.
6- زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقرب من يرجى، والله تعالى هو القريب المجيب وليس الحبيب محمد عليه السلام بعد وفاته.
ومن الأخطاء التي وقع فيها القوم التوسل . والتوسل هو اتخاذ الوسيلة وهي الطريقة التي توصل إلى المطلوب " المرغوب".
الوسائل نوعان كونية وشرعية:
1- الوسيلة الكونية: وهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخلقته التي خلقه الله بها ويؤدي إلى المطلوب بما أودعه الله فيه من سنن كالماء فهو الوسيلة إلى ري الظمآن والطعام هو الوسيلة لحصول الشبع للجائع ، والملابس تحفظ الإنسان من حرارة الشمس وبرد الشتاء، واستعمال الزراعة والري للحصول على الغذاء والزواج وسيلة لحصول الذرية وهي مشتركة بيـن المؤمن والكافر من غير تفريق … ويشترط لاستعمالها شرطان أن تكـون مباحةً شرعاً، وثبت بالتجربة وغالب الظن تحقق المطلوب بها.
2- والوسيلة الشرعية: وهي كل سبب يوصل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله تعالى وبينه في كتابه وسنة نبيه وهي خاصة بالمؤمن المتبع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فالوضوء والغسل والتيمم وسيلة لحصول الطهارة ، والامتناع عن الطعام وسيلة لحصول الصيام والنطق بالشهادتين والعمل بمضمونها وسيلة لحصول مرضاة الله تعالى والفوز برحمته ودخول الجنة، وإتباع السيئة الحسنة وسيلة إلى محو السيئة، وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نيل الشفاعة، وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسعة الرزق. ويشترط فيها ثبوتها بالشرع الحنيف.فهذه القضايا السابقة تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم والتجربة أو الحواس، فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) .
التوسل المشروع لا يتم إلا بأحد أنواع ثلاثة: -
1- التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته.
2- التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
3- التوسل بدعاء رجل صالح .
النوع الأول: التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته: قال الله تعالى : {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180]ومنه ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحد أدعيته ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) .وفي الحديث من كثر همه فليقل ((اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعـل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي " إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً)) وفي الحديث ، ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني)) .
النوع الثاني: التوسل إلى الله بصالح الأعمال:
وهو أن يتوسل الإنسان بصالح أعماله إلى الله عز وجل لأن هناك مناسبة بين توسل الإنسان إلى الله وبين عمله الصالح الذي أخلص به لوجه الله تعالى والدليل على صحة ذلك ما ورد في القرآن الكريم قال تعالى : {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] وقال تعالى : {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:53].
وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((انطلق ثلاثة رجال ممن كان قبلكم ، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار.
فقالوا: والله لا ينجينا من هذه الصخرة إلا أن ندعوا الله بصالح أعمالنا.
فقال أحدهم: كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً ، فعاقني طلبُ يوماً ، فلم أرح عليهما حتى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما ، فجئتهما به فوجدتهما نائمين ، فتحرجت أن أوقظهما ، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح بيدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما..
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الثاني: " اللهم لقد كانت لي ابنة عم ، كانت أحب الناس إلى ، فراودتها عن نفسها فامتنعت ، حتى ألمت بها سنة من السنين ، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها ، قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجتُ من الوقوع عليها وانصرفت عنها وهي أحب الناس إلى ، وتركت المال الذي أعطيتها إياه.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
ثم قال الثالث: " اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم ، غير رجل واحد منهم ، ترك أجره وذهب ، فثمرت أجره ، فجاءني بعد حين ، فقال يا عبد الله أدِّ إلى أجرتي، فقلت له: إن أجرتك هي كل ما ترى من الإبل والغنم والبقر والرقيق ، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي ، فقلت: إني لا أستهزئُ بك ، ورويت له القصة ، فأخذ ذلك كله فاستاقه ، ولم يترك منه شيءاً.اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فأفرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة فخرجوا من الغار يمشون)) … وهذا حديث صحيح.
وهذا الحديث يدل على صحة أعمالهم فيها وإن الله قبلها وقبل دعاءهم وتوسلهم بصالح أعمالهم.
النوع الثالث: التوسل بدعاء الصالحين:
وهو كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى فيحب أن يتقرب إلى الله بسبب قوي، فيذهب إلى رجل حيث يعتقد فيه الصلاح والتقوى والعلم والفضل فيطلب منه أن يدعو له ربه أن يكشف عنه الضر ويفرج كربه. ومن ذلك توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء العباس رضي الله عنه والاستسقاء به حيث قال: (اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون) .
والمراد أن عمر رضي الله عنه كان يقول للعباس رضي الله عنه قم فاستسق لنا ربك فيدعو لهم فيسقيهم الله تعالى .
ومن ذلك أن معاوية رضي الله عنه دعا يزيد بن الأسود يستسقي لهم فدعا لهـم ودعا الناس فسقاهم الله.وأما الشفاعة فهي شبيهة بالتوسل وليس لأحد أن يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه لقوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن شفاعته بأن الله عز وجل يحد له حداً ويقول له اشفع في هؤلاء فيشفع …… وأما الشفاعة في الدنيا فيجوز للإنسان أن يشفع شفاعة حسنة. ولا تصح الشفاعة في ظلم ولا في حد من حدود الله لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد مستنكراً ((أتشفع في حد من حدود الله ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) .
والشفاعة في الآخرة لا تطلب إلا من الله تعالى فليس لأحدنا أن يطالب أو يرجو الشفاعـة مـن أحد حتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يطلب ذلك من الله تعالى فيقول اللهم ارزقنا شفاعته.
وأما ما ورد في حديث الضرير حين توضأ وصلى ركعتين ، وكان من دعائه بعدهما عن محمد صلى الله عليه وسلم اللهم شفع فيَّ محمداً وشفعني فيه، فالمراد من قوله اللهم تقبل دعاءه لي ودعائي له ، فيكون المراد أيضاً طلب استجابة دعاء كلٍ منهما من الله عز وجل.
وأما الأحاديث الأخرى الواردة وتشمل على السؤال بحق النبي ، أو بجاه النبي أو بحق السائلين فلا يقوى منها حديث لدرجة الصحة ، فكلها بين الضعيف والموضوع.
من أبرز رجال التصوف البدعي:
البوصيري:
هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري كنيته أبو عبد الله ولقبه شرف الدين ، وهو شاعر مليح المعاني حسن الديباجة. والبوصيري نسبة إلى " أبو صير " من أعمال بني سويف بمصر ، وأمه منها ، وأصله من المغرب ، وتوفى بالإسكندرية. عاش بين عامي 608– 696هـ ، 1212– 1296م. له ديوان شعر وأشهر أشعاره البردة.
وسميت البردة بهذا الاسم – كما زعموا - لأن البوصيري أصيب بشلل نصفي ، فأنشدها فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فألقى عليه بردته فبرئ ، وكان بعض الفقراء إذا مرض قرأ البردة فبرئ والله أعلم . وهذا لا يصح شرعاً لاشتمال البردة على مغالطات شرعية وعقدية ولا يصح عقلاً.
البرعي:
وهو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني ، وهو شاعر متصوف من سكان اليمن ، درس العلم وأفتى ودَرَّسَ ، له ديوان شعر مطبوع أكثره في المدائح النبوية ، ينسب إلى برع بتهامة ، توفيَّ سنة 803هـ – 1400م .
مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص59- 70
المطلب الثالث: التصوف الفلسفي (الباطل)
وهو التصوف الذي اختلط بالفلسفات القديمة حتى غلبت عليه أفكار الفلاسفة كالفلسفة الإشراقية والزرادشتية وهو أيضاً يشتمل على رهبانية النصاري ، ودردشة الهنادكة ، ودخل إليه الشرك أيضاً عن طريق تأثره بالفلسفة اليونانية والرومانية والفارسية.
وأصحاب هذا النوع من التصوف تحللوا من شريعة الإسلام ومبادئه ووقعوا في جاهلية عمياء حيث وقعوا في الخرافات والأكاذيب وابتعدوا عن الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد وانقطعوا لاستقبال الهبات والنذور من جهلة القوم . وأبرز الأفكار التي ظهرت عند هؤلاء القوم هي وحدة الوجود والحلول والاتحاد والاعتماد على العلوم الكشفية.
والملاحظ أن هذا النوع من التصوف لا يستمد أصوله وأفكاره من مصادر إسلامية لذلك قوبل بمعارضة شديدة من العلماء والأئمة كالغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) ، ابن تيمية في (فتاويه) ، ابن القيم في (مدارج السالكين)، وابن الجوزي في (تلبيس إبليس).
من أبرز رجال التصوف الفلسفي:
1- الحلاّج (240):
هو الحسين بن منصور الحلاج الفارسي ولد بفارس سنة 244هـ البيضاوي البغدادي ، جدهُ زاردشتي ، صوفـي متكلم وله اتصال بالقرامطة له شطحات كثيرة ، وأقوال سقيمـة منهـا قوله " مـا فـي الجبة إلا الله " " وأنا الحق " ولا يؤمن بفريضة الحج يقول أبو بكر بن الصولي عنه رأيت الحلاج وخاطبتـه فرأيـت جاهـلاً يتعاقل وغبياً يتبالغ وفاجراً يتزاهد …… وكان مع جهله خبيثاً ، وكان متشدداً وعنيداً ومغالياً ويكتنفه كثير من الغموض وقد قتل مصلوباً بفتوى من علماء عصره سنة 309هـ.
2- ابن الفارض (241):
هو عمر بن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري ولد سنة 576هـ ، شاعر صوفي لقب بسلطان العاشقين اشتغل بفقه الشافعية أخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري ، حبب إليه سلوك طريق الصوفية كان يعتزل الناس ويأوى إلى المساجد المهجورة والأماكن الخربة.
توفى بالقاهرة سنة 632هـ ، وله ديوان شعر وشعره ينعق بالاتحاد الصريح.
3- ابن عربي (242):
هو محيي الدين بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي ، الحاتمي ، صوفي ومتكلم وفقيه وأديب ومفسر ، ولد بالأندلس سنة 560هـ كان يلقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، له أراء سقيمة أنكرها عليه كثيرٌ من أهل عصره واتهموه بالزندقـة وعمل بعضهم على قتله خاصة في مصر، وحرم الشيخ جلال الدين السيوطي النظر في كتبه، له مؤلفات كثيرة منها الفتوحات المكية ، وفصوص الحِكَم ، من أقواله: الوجود كله واحد ، وجود المخلوقات عين وجود الخالق ، وجود الله هو الوجود الحقيقي ، وجود العالم هو الوجود الوهمي، ويبني ابن عربي على وحدة الوجود وحدة الأديان وغير فكرة التوحيد بقوله ليس في الوجود على الحقيقة إلا الله ولا معبود في الواقع إلا الله وقد قال عن نفسه كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت. وكانت وفاته عام 638هـ بدمشق ودفن فيها وله قبر يزار في أيامنا هذه.
4- ابن سبعين (243):
هو عبد الحق بن محمد بن نصر الاشبيلي المرسى القرمطي ، ولد سنة 614 وتوفى سنـة 669 هجريـاً ، وتوفـى منتحراً ، قيل أنه فصد الدم من يديه وتركه ينزف حتى تصفى فمات.
وهو صوفي وحكيم درس العربية وآدابها بالأندلس.
من أقواله السقيمة " لقد كذب ابن أبي كبشة حين قال لا نبي بعدي.
ومن مؤلفاته أسرار الحكمة – الحروف الوضعية في الصور الفلكية – جواهر السر المنير.
ولا تخلو مؤلفاته من الأقوال الباطلة كان يكثر من القول بوحدة الوجود في مؤلفاته ومواعظه.
5- شهاب الدين السهروردي (244):
هو أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، الملقب بالشيخ المقتول، ولد عام 549هـ في مدينة ميديا المعروفة باسم سهرورد من أعمال زنجان من فارس (العراق العجمي)، تنقل في البلدان، تتلمذ على يد عبد الكريم الجيلي " الجيلاني " شيخ فخر الدين الرازي، طالع كتب ابن سينا وتصوف وتقرب من الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين الأيوبي وحضر مجالسه.
اختلف الفقهاء مع السهروردي لقوله (إن الله قادر على أن يخلق نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأمر صلاح الدين ابنه الملك الظاهر بقتله لانحلال عقيدته، وكان ذلك عام 587هـ ، كان مستوى القامة يميل إلى سماع الموسيقى، يحتقر من يتقرب إلى السلطان والأبهة الدنيوية، سليط اللسان، لا يحترم الفقهاء والشيوخ، وكان أحياناً يرتدي الخرقة الصوفية والثياب المهلهلة؛ وكان رديء الهيئة ذريء الخلقة لا يغسل له ثوباً ولا يقص ظفراً ولا شعراً.
وكان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، فصيح العبارة، علمه أكبر من عقله، من أقواله حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات.. اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف.
وله كثير من المؤلفات بعضها مطبوع مثل: هياكل النور، رسالة في اعتقاد الحكماء، حكمة الإشراق وبعضها مخطوط مثل: المشارع والمطارحات، التلويحات، مقامات الصوفية.
وذكر ابن خلدون الاختلاف في اسمه هل هو يحيى أم أحمد أم عمر والمترجم عنده أنه يحيى وذلك لأن جماعة من أهل الفن كتبوه بهذا الاسم.
التصوف السني :
والمراد بهذا النوع من التصوف هو ما كان قرين الزهد والتقلل من متاع الدنيا وملذاتها وهو امتداد لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وإن كان هذا الزهد لم يعرف باسم التصوف إلا في أواخر القرن الثاني الهجري فإن أصله ومعناه وحقيقته
كان معروفاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حث على ذلك القرآن الكريم في كثير من آي الكتاب الحكيم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5].
وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:65].وكذلك كثر ذكر الزهد في كتب الحديث والسنن وكثرت أبوابه، والناظر فيها يجدها قد اشتملت على أبواب كثيرة مثل باب الزهد في الدنيا ، باب فضل الجوع ، باب القناعة والعفاف، باب فضل البكاء من خشية الله …… والناظر في هذه الكتب يجد كثيراً من الأحاديث والآثار الواردة في الزهد ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)) وقوله صلى الله عليه وسلم ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك)) .
لذا لم يكن مستغرباً أن يزهد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في دنياهم، ولا تابعوهم والسلف الصالحين.
ولم يكن الزهد عن قلة المال وإنما الزاهد هو من جاءه المال فزهد فيه وأنفقه ولم يجعله كل همه.
مصادر التصوف السني:
1- القرآن الكريم:
والقرآن الكريم هو الأساس الذي يستمد منه كل علم شرعي شرعيته، وعليه يعتمد أهل الحـق فـي التمسك بحقهم. كما أن القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم وهو الكامل الشامل كما قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ٌ}[المائدة:3].
لذلك لم يهمل القرآن الدعوة إلى الزهد والتقلل من متاع الحياة الدنيا التي يضرب لها مثلاً بقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24].
وقال أيضاً: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:45- 46].
2- السنة النبوية:
والمصدر الثاني من مصادر هذا الدين هو السنة النبوية ، لذا فإن الناظر في كتب السنن وفى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بالدعوة إلى الزهد وإليك بعض المختارات من بستان النبوة الذي يعج ويحفل بوصف الدنيا ودنوها لطالبيها وأنها مزرعة الآخرة ولا تغنى عن الآخرة شيءاً.قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) .وقال: ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) .وقال مبيناً تعاسة من تمسك بها وشغل نفسه بها: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وان لم يعط لم يرض)) . و قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) .وكان يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم ومتعلم)) ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، كيف لا وقد كانت تأتيه مرغمة فيردها إلى من هو دونه وينفقها، وقد قال: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا تمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء أرصده لدين)) .ويقـول النعمـان بـن بشيـر رضي الله عنه يصـف حـال النبـي صلى الله عليه وسلم كمـا ذكـر ذلك عنه قال: ((لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما يجد من الدقل (رديء التمر) ما يملأ به بطنه)) .وفى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير فأثـرّ فـي جنبـه فقـال له أصحابه رضى الله عنهم: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً. فقـال: " ما لى وللدنيـا ؟ مـا أنـا فـي الدنيـا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ حتى قبض)) . وفي رواية أخرى ((ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض)) .و((ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ، ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه ، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)) .
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن نتأسى به ونقتفي أثره {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}[الممتحنة:6].
3- آثار الصحابة والتابعين:
عند الرجوع إلى أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين نرى فيهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بترك متاع الدنيا وزخرفها.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وليَّ الخلافة دفع كل ما له في بيت مال المسلمين، فلما سئل عن ذلك قال: كنت أتجر فيه فلما وليتموني شغلتوني عن التجارة وحين وليَّ الخلافة خرج إلى السوق ليعمل فقال له الصحابة رضي الله عنهم: نفرض لك ففرضوا له قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم، فكان له برداه للصيف والشتاء إن أخلقهما " أي قَدِمَا " وضعهما وأخذ مثلهما وظهره إذا سافر ، ونفقته على أهله كما كان ينفق عليهما قبل أن يُستخلف، فقال أبو بكر رضي الله عنه قد رضيت .
وكان عمر رضي الله عنه على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه فحين فتحت عليه الدنيا كلمتاه عائشة وحفصة رضي الله عنهما في تغيير جبته التي كانت فيها اثنتا عشرة رقعة ويقدم له طعام يأكل منه وأضيافة، فأبا وقال إن له أسوة بصاحبيه فلا يجمع بين أُدمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم ولما قدم له ما ء قد شيب بعسل فقال: إنه لطيِّب وقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}[الأحقاف:20]. فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه " .
وفي البداية والنهاية لابن كثير أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج بسيفه إلى السوق وقال: من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً ما بعته .
ورضي الله عن أبي الدرداء إذ يقول: والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد ، لا يخطئني فيه صلاة ، أربح فيه كل يوم أربعين ديناراً وأتصدق بها كلها في سبيل الله. قيل له: يا أبا الدرداء وما تكره في ذلك؟ قال: شدة الحساب .
والمتبع لقصص الصحابة في (الحلية) ، و(كنز العمال) ، و(البداية والنهاية) ، وكتب السنن يجد الشيء الكثير من ذلك وكذلك قصص التابعين.
من أعلام التصوف السني:
1- إبراهيم بن أدهم (199) بن منصور البلخي التميمي كنيته أبو اسحق، كان أبوه من ملوك خراسان وكان موسراً ، وعاش مترفاً منعماً ، وقد خرج إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه للصيد فسمع صوتاً يناديه فالتفت إليه فلم ير شيئا وتكرر ذلك معه ، ثم قال له المنادى: ما لهذا خلقت ولا بذا أمرت فعزم أن لا يعصي الله تعالى بعد ذلك ورجع إلى بيته فترك فرسه وعمد إلى أحد رعاة أبيه فأخذ منه جبةً وكساءً وتخل عن ثيابه وترك المتع.
خرج إلى العراق وإلى الشام طلباً للعمل وللرزق الحلال وتجول فيها وكان يأكل مـن عمل يده ، كان يعمل بالحصاد وجني الثمار وحفظ البساتين والحمل والطحن ، وكان إذا أنهي عملـه قبـل أن ينـام ينادي في الناس من يريد أن يطحن ؟ فيأتيه الناس فيطحن لهم بلا كراء.
أخذ عن كثير من علماء العراق والحجاز ، وكان قد تفقه ، وكان يشترك مع الغزاة في قتال الروم. وكان يتكلم الفصحة ولا يلحن في العربية ، وكان إذا وقف سفيان الثوري في مجلسه يعظ أوجز مخافة الزلل.
كان يلبس في الشتاء فرواً لا قميص تحته، وفى الصيف لا يتعمم ولا يحتذي، وكان يصوم في السفر والإقامة.
ولمـا سئل كم لك في الشام ؟ قال: أربعة وعشرون عاماً ، ولما سئل ما جاء بك إليها قال: لأشبع من خبز الحلال.
عمل في أحد البساتين سنين ، فجاءه صاحب البستان وطلب منه رماناً حلواً فجاءه به فوجده حامضاً فقال له: تأكل فاكهتنا سنين ولا تميز الحلو من الحامض. فأقسم أنه ما أكل فاكهتهم ولا يميز الحلو من الحامض.
وجاءه عبد لأبيه يحمل له عشرة آلاف درهم ، ويخبره أن أباه قد مات في بلخ وخلف له مالاً كثيراً، فأعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه.
هذا هو إبراهيم بن أدهم الذي ترك الدنيا ومتاعها طلباً لبحبوحة الجنة وقد توفي رحمه اللهسنة 161هـ –778م.
وأخباره كثيرة وفيها اختلاف في مسكنه ونسبته ووفاته.
2- عبد الله بن المبارك (200):
هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء التميمي المروزي ، يكنى بأبي عبد الرحمن وهو شيخ الإسلام ، كان من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ المذكورين بالزهد وقد جمع الحديث والفقه والعربية ، وأيام الناس والشجاعة والتجارة، والمحبة عند الفرق، كان من سكان خراسان ولد سنة 118 هـ، سمع سفيان الثوري وشعبه والأوزاعي والليث بن سعد، أفنى عمره في الأسفار حاجاً وتاجراً ومجاهداً ، كان سخياً ، وكان يقضي الدين عن المدينين، ويسعى في فك المحبوس، له كتاب في الجهاد وهو أول من صنف فيه.
مات بهيت على الفرات منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ.
قال الأوزاعى: لو رأيت ابن المبارك لقرت عينك.
وقال سفيان الثوري: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.
قال ابن المبارك: زيادة دنياكم بنقصان آخرتكم ، وزيادة آخرتكم بنقصان دنياكم. وكان يقول: أحب الصالحين ولست منهم ، وأبغض الطالحين وأنا شرٌ منهم.
وقال: الصمت أزين للفتـى من منطق في غيـر حينه ، والصدق أجمل بالفتى في القول عندي من يمينه.
وسئل ابن المبارك مَنْ الناس ؟ قال العلماء: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد. فمن سفلة الناس ؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
3- الفضيل بن عياض (201):
الفضيل بن عياض التميمي من بني يربوع ولد بخراسان ، قدم الكوفة وهو كبير كان ثقة ثبتاً فاضلاً عابداً ورعاً ، وكان من شدة الخوف نحيفاً.
كان كثير الحديث وسمع الحديث من منصور بن المعتمر وغيره ، وروى عنه ابن المبارك والشافعي وبشر الحافي وغيرهم. ثم تعبد وانتقل إلى مكة وكان لا يقبل هدايا الدولة.
وتوفى بمكة المكرمة سنة 187هـ في خلافة هارون الرشيد وكان ذلك يوم عاشوراء، وقد نيف على الثمانين عاماً. قال هارون الرشيد: ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل. وقال إبراهيم بـن الأشعت: كان الفضيل إذا ذكر الله ، أو
ذُكر عنده ، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكي حتى يرحمه من بحضرته. وقال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة يعظ ويذكر ويبكي كأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة فإذا وصلنا المقبرة جلس كأنه بين الموتى.
قال عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وللفضيل أقوال كثيرة في كتب التراجم منها:
" من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة "
" ليس من عبد أُعطي شيئا من الدنيا إلا كان نقصاناً له من الدرجات في الجنة "
" ليست الدار دار إقامة وإنما أُهبط آدم إليها عقوبة "
" لو خيرت لاخترت أن أعيش كلباً وأموت كلباً ولا أرى يوم القيامة "
وكان رحمه الله يكثر من صلاة الليل فيلقى إليه حصيـر فإذا غلبته عيناه استلقى عليه ثم يفيق يصلي ……
4- معروف الكرخي (202):
هو معروف بن فيروز " الفيرزان " الكرخى أبو محفوظ ولد في كرخ بغداد ونشأ فيها، كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدبهم فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول: بل هو الواحد فيضربه معلمه ضرباً مبرحاً فهرب وأسلم على يد على بن موسى الكاظم. وكان أبواه يقولان ليته يرجع على أي دين فنتبعه فرجع إليهما مسلماً فأسلما. وكان مولى من موالي علي بن موسى الكاظم وكان يحجبه فكثر الزحام فضغطه الناس فتكسرت أضلاعه فمات ببغداد سنة 200هـ.
لما حضرته الوفاة قيل له: أوصى. فقال: أوصى بقميصي إذا مت فتصدقوا به أريد أن أخرج منها عرياناً كما دخلتها.
وقبره ببغداد مشهور ويزار ويستشفع به ويتبرك به ويستسقى به " وهذا لا يصح " وكان رحمه الله مشهوراً بالصلاح مستجاب الدعوة حريصاً على الحق ، ذات يوم مر بسقاء يقول رحم الله من يشرب وكان صائماً فشرب طمعاً ببركة دعائه. قال رجل لمعروف الكرخى: ما شكرت معروفي. فقال: وقع معروفك من غير محتسب عند غير شاكر. وقال معروف الكرخى: " طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق ".
التصوف البدعي :
وهذا التصوف خليط من التصوف الإسلامي والتصوف الجاهلي، وقد يكون رجاله أهل علم وأصحاب نوايا حسنة ، وأثرت فيهم العادات السائدة في عصرهم وخاصة ما فيها من بدع.
بعضهم حاول إصلاح الطرق فلم يستطع فاضطروا إلى تأويل أعمالهم التي هي في الظاهر مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليوهموا الناس بأنها لا تعارض النصوص الشرعية وليسلموا من الطعون والانتقادات الموجهة إليهم.
وهؤلاء القوم ليس لهم تطلع لإقامة دين الله تعالى في الأرض بل هم يشغلون أنفسهم بأمور أهمها:
1- الاشتغال بالأذكار والأوراد وغالباً مـا تكـون طريقتهـم فـي الذكـر غير مطابقة للسنـة بـل تشتمـل على بعض البدع ، كأن يكون الذكر بصورة جماعيـة ، ويسبق بعضهـم بعضـاً ممـا يجعـل المسبـوق يتـرك بعض الكلمات التـي تخـل بالمعنى، إضافـة إلى الحركات المصطنعـة التي يحدثونها أثنـاء الذكـر مـن التمايـل والقفـز والتراقص.
كما أن أورادهم غالباً ما تشتمل على الاستشفاع والتوسل بالأولياء والصالحين والاستعانة بالمقبورين ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بالدعاء.
2- التربية والتزكية عن طريق النوافل، فهم غالباً يحرصون على الإكثار من صيام التطوع فبعضهم يتحرى صيام المندوبات والبعض يصوم زيادة على ذلك. وكذلك الصلوات فهم يكثرون من صلاة النافلة وقيام الليل بل يجعلوا لكل ليلة قيامًا مخصوصاً وتلاوة مخصوصة، ولا يجوز تخصيص يوم أو ليلة بعبادة مخصوصة إلا بدليل.
3- البيعة يهتم كثير من أصحاب الطرق الصوفية البدعية بأخذ البيعة من المريد وتكون البيعة على الطاعة المطلقة لشيخه، دون الاعتراض عليه.والطاعة المطلقة لا تصح إلا للمعصوم عليه السلام وكل بيعة لغيره يجب أن تكون مقيدة في حدود عدم المعصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) .
أبرز ما يميز هذا النوع من التصوف هو الوقوع في البدع.
أقسام البدعة:
البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة:
1- البدعة الحسنة أو السنة الحسنة وهي تكون في الجوانب الحياتية والتقدم العلمي التجريبي وفى الأمور التي تخضع للمصالح المرسلة "المصالح العامة التي لا نص فيها " كعمل صندوق للصدقات وبناء المستشفيات والمدارس التعليمية وما شابه ذلك. 2- البدعة السيئة وهي كل محدثة في دين الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة)) .
وقد وقع الصوفية في كثير من البدع والشركيات منها.
ما يكون من غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية
والذين يجعلون مع الله نداً يدعونه كما يدعو الله تعالى ويسألونه الشفاعة كما يسألون الله تعالى ، ويحبونه كما يحبون الله تعالى .وقد حذر صلى الله عليه وسلم مما هو أدنى من ذلك فحين قيل له عليه السلام " ما شاء الله وشئت ". قال: ((أجعلتنى لله عدلاً (نداً) بل ما شاء الله وحده)) .ومن ذلك أيضاً التبرك بالأماكن والأشخاص والأشجار وغير ذلك ، وقد طلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم شيئا من ذلك وهم حديثوا عهد بكفر وذلك حين خرجوا لغزوة حنين فمروا " بشجرة " بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قالوا: اجعل لنا شجرة كذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف:138] إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)) .
ومن ذلك الذبح للأولياء والصالحين ، وتقديم القرابين لهم ، والذبح عند قبورهم. وقد نهي الله تعالى عن ذلك وحذر من الوقوع في ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:162-163]وقال تعالى : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]وقال صلى الله عليه وسلم ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والده ، ولعن الله من آوى محدثاً ، ولعن الله من غير منار الأرض)) .وقد نهي صلى الله عليه وسلم عن الذبح عند الأوثان أو في أماكن يقام فيها عيد جاهلي وذلك حين سُئل عن رجـل نذر أن يذبح إبلاً بأحد الأماكن فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد)) فقالوا: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟)) قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) .
ومنها الاستعاذة بالمقبورين والصالحين من الأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. والاستعاذة معناها الالتجاء والاعتصام والتحرز والهرب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه .
وقد أمرنا المولى عز وجل أن نستعيذ به قال تعالى : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36]وقال أيضاً: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:97- 98] وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1]و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1].
ومنها الاستغاثة بغير الله تعالى والاستغاثة طلب الغوث لإزالة الشدة كالاستنصار طلب النصرة ، والاستغاثة تمتاز عن الدعاء بأنها لا تكون إلا من المكروب قال تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال:9]
فقد وقع كثيرٌ من الصوفية والعوام في ذلك فمنهم من يدعو شيخه عند اشتداد الكروب فيقول: يا علي ، ويا عبد القادر ، ويا بدوي …… وأدى الغلو إلى أكثر من ذلك منهم من يسألهم الجنة وغفران الزلات …… حتى زعم أحدهم أن شيخة يجلس عند النار فلا يدع أحداً استغاثه يدخلها …… ونسجوا كثيراً من القصص المكذوبة فزعموا أن فلاناً استغاث شيخه فأغاثه ، أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو فرج كربته {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ الْقِيَامَةِ}[الأحقاف:5].
وممن وقع في ذلك البوصيري حيث قال:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
ولا يضيق رسول الله جاهك بي
إذ الكريـم تحلـى باسم منتقم
فإن لـي ذمـة منه بتسميتي
محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فقد وقع البوصيري بأخطاء كثيرة في أشعاره هذه منها: -
1- إنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الخطوب إلا الرسول عليه السلام وليس ذلك إلا لله.
2- تضـرع للرسـول عليـه السلام وناداه ودعاه وطلب منه أموراً لا تطلب إلا من الله عز وجل.
3- طلب منه الشفاعة عندما يريد الله تعالى الانتقام ولا يمنع ذلك أحد. قال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ}[الزمر:19].
4- ادعى أن له ذمة لأن اسمه محمد وهذا غير صحيح لأنه ليس بين الرسول عليه السلام ومن اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، وكم من الطغاة من سماه أهله بمحمد.
5- زعم أنه لا خلاص له إلاّ إذا تفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ بيده يوم القيامة، والخلاص والنجاة يوم القيامة تكون بفضل الله عليه.
وكذلك البرعي وقع في شيء من ذلك في قوله:
أرجوك في سكرات الموت أن تشهدني
كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلتُ ضريحــاً لا أنيس بــه
فكـن أنيس وحيـد فيه منفرد
وقال أيضاً:
يـا سيـدي يا رسول الله يا أملي
يـا موئلـي يا ملاذي يـوم يلقاني
هبني بجاهـك مـا قدمت من زلل
جوداً ورجح بفضل منك ميزانــي
واسمع دعائي واكشف ما يساورني
من الخطوب ونفّس كل أحزانــي
فأنت أقرب من ترجـى عواطفـه
عندي وإن بعدت داري و أوطاني
فقد وقع البرعي بأبياته هذه في أخطاء عدة منها: -
1- أنه يستغيث بالرسول عليه السلام ويطلب حضوره عند موته ليهون عليه سكرات الموت وهذا ليس إلا لله عز وجل.
2- وطلب من الرسول عليه السلام أن يؤنس وحشته في قبره وليس للعبد أنيس إلا العمل الصالح.
3- وطلب منه أن يرجح ميزانه يوم القيامة ولا يرجح الميزان إلا الإخلاص والعمل الصالح
4- وطلب منه عليه السلام أن يكشف عنه الضر والكربات ويهون عليه الحزن والخطوب.
5- وهو الذي يرجو عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم مهما بعدت الدار … والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرجى بعد موته.
6- زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقرب من يرجى، والله تعالى هو القريب المجيب وليس الحبيب محمد عليه السلام بعد وفاته.
ومن الأخطاء التي وقع فيها القوم التوسل . والتوسل هو اتخاذ الوسيلة وهي الطريقة التي توصل إلى المطلوب " المرغوب".
الوسائل نوعان كونية وشرعية:
1- الوسيلة الكونية: وهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخلقته التي خلقه الله بها ويؤدي إلى المطلوب بما أودعه الله فيه من سنن كالماء فهو الوسيلة إلى ري الظمآن والطعام هو الوسيلة لحصول الشبع للجائع ، والملابس تحفظ الإنسان من حرارة الشمس وبرد الشتاء، واستعمال الزراعة والري للحصول على الغذاء والزواج وسيلة لحصول الذرية وهي مشتركة بيـن المؤمن والكافر من غير تفريق … ويشترط لاستعمالها شرطان أن تكـون مباحةً شرعاً، وثبت بالتجربة وغالب الظن تحقق المطلوب بها.
2- والوسيلة الشرعية: وهي كل سبب يوصل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله تعالى وبينه في كتابه وسنة نبيه وهي خاصة بالمؤمن المتبع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فالوضوء والغسل والتيمم وسيلة لحصول الطهارة ، والامتناع عن الطعام وسيلة لحصول الصيام والنطق بالشهادتين والعمل بمضمونها وسيلة لحصول مرضاة الله تعالى والفوز برحمته ودخول الجنة، وإتباع السيئة الحسنة وسيلة إلى محو السيئة، وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نيل الشفاعة، وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسعة الرزق. ويشترط فيها ثبوتها بالشرع الحنيف.فهذه القضايا السابقة تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم والتجربة أو الحواس، فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) .
التوسل المشروع لا يتم إلا بأحد أنواع ثلاثة: -
1- التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته.
2- التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
3- التوسل بدعاء رجل صالح .
النوع الأول: التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته: قال الله تعالى : {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180]ومنه ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحد أدعيته ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) .وفي الحديث من كثر همه فليقل ((اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعـل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي " إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً)) وفي الحديث ، ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني)) .
النوع الثاني: التوسل إلى الله بصالح الأعمال:
وهو أن يتوسل الإنسان بصالح أعماله إلى الله عز وجل لأن هناك مناسبة بين توسل الإنسان إلى الله وبين عمله الصالح الذي أخلص به لوجه الله تعالى والدليل على صحة ذلك ما ورد في القرآن الكريم قال تعالى : {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] وقال تعالى : {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:53].
وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((انطلق ثلاثة رجال ممن كان قبلكم ، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار.
فقالوا: والله لا ينجينا من هذه الصخرة إلا أن ندعوا الله بصالح أعمالنا.
فقال أحدهم: كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً ، فعاقني طلبُ يوماً ، فلم أرح عليهما حتى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما ، فجئتهما به فوجدتهما نائمين ، فتحرجت أن أوقظهما ، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح بيدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما..
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الثاني: " اللهم لقد كانت لي ابنة عم ، كانت أحب الناس إلى ، فراودتها عن نفسها فامتنعت ، حتى ألمت بها سنة من السنين ، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها ، قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجتُ من الوقوع عليها وانصرفت عنها وهي أحب الناس إلى ، وتركت المال الذي أعطيتها إياه.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
ثم قال الثالث: " اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم ، غير رجل واحد منهم ، ترك أجره وذهب ، فثمرت أجره ، فجاءني بعد حين ، فقال يا عبد الله أدِّ إلى أجرتي، فقلت له: إن أجرتك هي كل ما ترى من الإبل والغنم والبقر والرقيق ، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي ، فقلت: إني لا أستهزئُ بك ، ورويت له القصة ، فأخذ ذلك كله فاستاقه ، ولم يترك منه شيءاً.اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فأفرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة فخرجوا من الغار يمشون)) … وهذا حديث صحيح.
وهذا الحديث يدل على صحة أعمالهم فيها وإن الله قبلها وقبل دعاءهم وتوسلهم بصالح أعمالهم.
النوع الثالث: التوسل بدعاء الصالحين:
وهو كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى فيحب أن يتقرب إلى الله بسبب قوي، فيذهب إلى رجل حيث يعتقد فيه الصلاح والتقوى والعلم والفضل فيطلب منه أن يدعو له ربه أن يكشف عنه الضر ويفرج كربه. ومن ذلك توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء العباس رضي الله عنه والاستسقاء به حيث قال: (اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون) .
والمراد أن عمر رضي الله عنه كان يقول للعباس رضي الله عنه قم فاستسق لنا ربك فيدعو لهم فيسقيهم الله تعالى .
ومن ذلك أن معاوية رضي الله عنه دعا يزيد بن الأسود يستسقي لهم فدعا لهـم ودعا الناس فسقاهم الله.وأما الشفاعة فهي شبيهة بالتوسل وليس لأحد أن يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه لقوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة:255] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن شفاعته بأن الله عز وجل يحد له حداً ويقول له اشفع في هؤلاء فيشفع …… وأما الشفاعة في الدنيا فيجوز للإنسان أن يشفع شفاعة حسنة. ولا تصح الشفاعة في ظلم ولا في حد من حدود الله لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد مستنكراً ((أتشفع في حد من حدود الله ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) .
والشفاعة في الآخرة لا تطلب إلا من الله تعالى فليس لأحدنا أن يطالب أو يرجو الشفاعـة مـن أحد حتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يطلب ذلك من الله تعالى فيقول اللهم ارزقنا شفاعته.
وأما ما ورد في حديث الضرير حين توضأ وصلى ركعتين ، وكان من دعائه بعدهما عن محمد صلى الله عليه وسلم اللهم شفع فيَّ محمداً وشفعني فيه، فالمراد من قوله اللهم تقبل دعاءه لي ودعائي له ، فيكون المراد أيضاً طلب استجابة دعاء كلٍ منهما من الله عز وجل.
وأما الأحاديث الأخرى الواردة وتشمل على السؤال بحق النبي ، أو بجاه النبي أو بحق السائلين فلا يقوى منها حديث لدرجة الصحة ، فكلها بين الضعيف والموضوع.
من أبرز رجال التصوف البدعي:
البوصيري:
هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري كنيته أبو عبد الله ولقبه شرف الدين ، وهو شاعر مليح المعاني حسن الديباجة. والبوصيري نسبة إلى " أبو صير " من أعمال بني سويف بمصر ، وأمه منها ، وأصله من المغرب ، وتوفى بالإسكندرية. عاش بين عامي 608– 696هـ ، 1212– 1296م. له ديوان شعر وأشهر أشعاره البردة.
وسميت البردة بهذا الاسم – كما زعموا - لأن البوصيري أصيب بشلل نصفي ، فأنشدها فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فألقى عليه بردته فبرئ ، وكان بعض الفقراء إذا مرض قرأ البردة فبرئ والله أعلم . وهذا لا يصح شرعاً لاشتمال البردة على مغالطات شرعية وعقدية ولا يصح عقلاً.
البرعي:
وهو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني ، وهو شاعر متصوف من سكان اليمن ، درس العلم وأفتى ودَرَّسَ ، له ديوان شعر مطبوع أكثره في المدائح النبوية ، ينسب إلى برع بتهامة ، توفيَّ سنة 803هـ – 1400م .
مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص59- 70
المطلب الثالث: التصوف الفلسفي (الباطل)
وهو التصوف الذي اختلط بالفلسفات القديمة حتى غلبت عليه أفكار الفلاسفة كالفلسفة الإشراقية والزرادشتية وهو أيضاً يشتمل على رهبانية النصاري ، ودردشة الهنادكة ، ودخل إليه الشرك أيضاً عن طريق تأثره بالفلسفة اليونانية والرومانية والفارسية.
وأصحاب هذا النوع من التصوف تحللوا من شريعة الإسلام ومبادئه ووقعوا في جاهلية عمياء حيث وقعوا في الخرافات والأكاذيب وابتعدوا عن الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد وانقطعوا لاستقبال الهبات والنذور من جهلة القوم . وأبرز الأفكار التي ظهرت عند هؤلاء القوم هي وحدة الوجود والحلول والاتحاد والاعتماد على العلوم الكشفية.
والملاحظ أن هذا النوع من التصوف لا يستمد أصوله وأفكاره من مصادر إسلامية لذلك قوبل بمعارضة شديدة من العلماء والأئمة كالغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) ، ابن تيمية في (فتاويه) ، ابن القيم في (مدارج السالكين)، وابن الجوزي في (تلبيس إبليس).
من أبرز رجال التصوف الفلسفي:
1- الحلاّج (240):
هو الحسين بن منصور الحلاج الفارسي ولد بفارس سنة 244هـ البيضاوي البغدادي ، جدهُ زاردشتي ، صوفـي متكلم وله اتصال بالقرامطة له شطحات كثيرة ، وأقوال سقيمـة منهـا قوله " مـا فـي الجبة إلا الله " " وأنا الحق " ولا يؤمن بفريضة الحج يقول أبو بكر بن الصولي عنه رأيت الحلاج وخاطبتـه فرأيـت جاهـلاً يتعاقل وغبياً يتبالغ وفاجراً يتزاهد …… وكان مع جهله خبيثاً ، وكان متشدداً وعنيداً ومغالياً ويكتنفه كثير من الغموض وقد قتل مصلوباً بفتوى من علماء عصره سنة 309هـ.
2- ابن الفارض (241):
هو عمر بن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري ولد سنة 576هـ ، شاعر صوفي لقب بسلطان العاشقين اشتغل بفقه الشافعية أخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري ، حبب إليه سلوك طريق الصوفية كان يعتزل الناس ويأوى إلى المساجد المهجورة والأماكن الخربة.
توفى بالقاهرة سنة 632هـ ، وله ديوان شعر وشعره ينعق بالاتحاد الصريح.
3- ابن عربي (242):
هو محيي الدين بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي ، الحاتمي ، صوفي ومتكلم وفقيه وأديب ومفسر ، ولد بالأندلس سنة 560هـ كان يلقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، له أراء سقيمة أنكرها عليه كثيرٌ من أهل عصره واتهموه بالزندقـة وعمل بعضهم على قتله خاصة في مصر، وحرم الشيخ جلال الدين السيوطي النظر في كتبه، له مؤلفات كثيرة منها الفتوحات المكية ، وفصوص الحِكَم ، من أقواله: الوجود كله واحد ، وجود المخلوقات عين وجود الخالق ، وجود الله هو الوجود الحقيقي ، وجود العالم هو الوجود الوهمي، ويبني ابن عربي على وحدة الوجود وحدة الأديان وغير فكرة التوحيد بقوله ليس في الوجود على الحقيقة إلا الله ولا معبود في الواقع إلا الله وقد قال عن نفسه كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت. وكانت وفاته عام 638هـ بدمشق ودفن فيها وله قبر يزار في أيامنا هذه.
4- ابن سبعين (243):
هو عبد الحق بن محمد بن نصر الاشبيلي المرسى القرمطي ، ولد سنة 614 وتوفى سنـة 669 هجريـاً ، وتوفـى منتحراً ، قيل أنه فصد الدم من يديه وتركه ينزف حتى تصفى فمات.
وهو صوفي وحكيم درس العربية وآدابها بالأندلس.
من أقواله السقيمة " لقد كذب ابن أبي كبشة حين قال لا نبي بعدي.
ومن مؤلفاته أسرار الحكمة – الحروف الوضعية في الصور الفلكية – جواهر السر المنير.
ولا تخلو مؤلفاته من الأقوال الباطلة كان يكثر من القول بوحدة الوجود في مؤلفاته ومواعظه.
5- شهاب الدين السهروردي (244):
هو أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، الملقب بالشيخ المقتول، ولد عام 549هـ في مدينة ميديا المعروفة باسم سهرورد من أعمال زنجان من فارس (العراق العجمي)، تنقل في البلدان، تتلمذ على يد عبد الكريم الجيلي " الجيلاني " شيخ فخر الدين الرازي، طالع كتب ابن سينا وتصوف وتقرب من الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين الأيوبي وحضر مجالسه.
اختلف الفقهاء مع السهروردي لقوله (إن الله قادر على أن يخلق نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأمر صلاح الدين ابنه الملك الظاهر بقتله لانحلال عقيدته، وكان ذلك عام 587هـ ، كان مستوى القامة يميل إلى سماع الموسيقى، يحتقر من يتقرب إلى السلطان والأبهة الدنيوية، سليط اللسان، لا يحترم الفقهاء والشيوخ، وكان أحياناً يرتدي الخرقة الصوفية والثياب المهلهلة؛ وكان رديء الهيئة ذريء الخلقة لا يغسل له ثوباً ولا يقص ظفراً ولا شعراً.
وكان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، فصيح العبارة، علمه أكبر من عقله، من أقواله حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات.. اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف.
وله كثير من المؤلفات بعضها مطبوع مثل: هياكل النور، رسالة في اعتقاد الحكماء، حكمة الإشراق وبعضها مخطوط مثل: المشارع والمطارحات، التلويحات، مقامات الصوفية.
وذكر ابن خلدون الاختلاف في اسمه هل هو يحيى أم أحمد أم عمر والمترجم عنده أنه يحيى وذلك لأن جماعة من أهل الفن كتبوه بهذا الاسم.