[size=32]الاحتجاج بالخلاف ديانة أم مخادعة لله؟!
سألني أحد الأشخاص عن حكم مسألة ما ، فأجبته بما يقتضيه الدليل وقرنت الجواب بدليله ، فبادرني سائلا : هل المسألة متفق عليها أو أن فيها خلافاً ؟ قلت وقد أدركت مبتغاه : وماذا يفيدك الجواب ؟ قال : إن كان فيها خلاف سيكون أسهل عليّ !
وبالتأكيد ليس هذا الشخص فريداً في فكرته هذه ، بل قد ظهرت بين صفوف المنتسبين للاستقامة الظاهرة فكرة البحث عن آراء الفقهاء التي فيها تسهيل في الأحكام الشرعية بغض النظر عن مدى ثبوتها بالأدلة الشرعية ، بل ومع العلم أحياناً بكونها مصنَّفة ضمن الشذوذ الفقهي الصارخ ، والمؤسف حقاً أن يتبنى بعض هؤلاء العمل بها وإن جاءت على خلاف الدليل الصحيح الصريح ؛ بل وتطبيعها والدفاع عنها ، كلّ ذلك استناداً إلى وجود خلاف في المسألة !
ومن هنا فتن هؤلاء بعضَ العوام ، لظهور الترخص في بعض الأحكام الظاهرة لدى المطبقين لهذه الفكرة التبريرية من الرجال والنساء .. فتسبب هؤلاء في ارتكاب المخالفة بغير دليل من الشرع ، وبين صدّ المتبعين للدليل الشرعي من العوام عنه.
وتكمن الخطورة المنهجية في هذا المسلك في ابتغاء الآراء بمعزل عن أدلتها ، وجعل الخلاف ذاته دليلاً على المشروعية ! وهذا – لا شكّ - انحراف منهجي ، يقع فيه بعض المتفقهة فضلا عن غيرهم من الباحثين عن التخفيف من أي طريق كان . فمما لا يخفى على صغار طلبة العلم أنَّ الخلاف ليس معدوداً في الأدلة الشرعية ، لا المتفق عليها ، ولا ما يعبّر عنها بالمختلف فيها . بل النصّ الشرعي ظاهر واضح صريح في حصر الرجوع في حال النزاع إلى الكتاب والسنة ، في مثل قول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .
بل إنَّ مما اختصّ به العلماء في النصيحة لهم ، الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) كما يقول ابن رجب رحمه الله : " ردّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها ، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلِّها ، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها " (1) .
وهذا الانحراف بجعل الخلاف في منزلة الدليل الذي أخذ يستشرى اليوم بين بعض المتفقهة ، ليس انحرافاً جديداً ؛ بل قد نبّه إلى خطورته ومنافاته للشريعة الربانية ، عدد من المحققين من أهل العلم ؛ فقد قال العلامة الباجي المالكي رحمه الله منكراً تكرر مثل هذا الانحراف لدى المستفتِين بسبب ضعف إنكاره : " وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها : لعلّ فيها رواية ؟ أو لعلّ فيها رخصة ؟ وهم يرون أنَّ هذا من الأمور الشائعة الجائزة ! ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي ؛ وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدّ به في الإجماع أنَّه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحلّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنَّه حقّ ، رضي بذلك من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنَّما المفتي مخبر عن الله في حكمه ، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنّه حكَم به وأوجبه ، والله تعالى يقول : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) المائدة 49 . فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ! أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عمراً لصداقة بينهما ، أو غير ذلك من الأغراض ؟! " (2).
وقال العلامة الشاطبي رحمه الله ، في فصل عقده في الموضوع بعد تعقيبه على كلام الباجي: " وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية ؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حُجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان : الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم ! لا بمعنى مراعاة الخلاف ، فإنَّ له نظراً آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع ، فيقال : لِمَ تمنع ؟ والمسألة مختلف فيها ، فيجعل الخلاف حُجَّة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها ، لا لدليل يدلّ على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ؛ وهو عين الخطأ على الشريعة ، حيث جعل ما ليس بمعتمدٍ معتمداً ، وما ليس بحجّة حجّة " (3) . ثم أورد نقلاً عن الخطابي جاء فيه : " وليس الاختلاف حُجّة . وبيان السنّة حُجّةٌ على المختلفين[ يعني فيما أورده من المسائل التي اختلف فيها ] من الأولين والآخرين " ثم قال الشاطبي رحمه الله : " والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ به عن نفسه ؛ فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتّباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه "(4) .
وقال الشاطبي رحمه الله مبيناً بعض دعاوى هؤلاء : (( ويقول : إن الاختلاف رحمة ، وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور ، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجَّرت واسعاً ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك . وهذا القول خطأ كلّه ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله "(5)
وقد قسّم رحمه الله الآخذين بهذا المنهج المنحرف إلى ثلاثة أقسام :
الأول : الحاكم به ، والثاني : المفتي به ، والثالث : المقلّد العامل بما أفتاه به المفتي. ثم بين حكم كل قسم إذ قال : " أمَّا الأول ؛ فلا يصح على الإطلاق ؛ لأنَّه كان متخيراً بلا دليل ، لم يكن أحد الخصمين بالحكم أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ...
وأمَّا الثاني ؛ فإنَّه إذا أفتى بالقولين معاً على التخيير فقد أفتى في النازلة على الإباحة، وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز إن لم يكن يبلغ درجة الاجتهاد بالاتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقتٍ واحد ونازلة واحدة أيضاً حسبما بسطه أهل الأصول.
وأيضاً ؛ فإنَّ المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير ، كذلك هذا.
وأمَّا إن كان عاميَّاً ؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتّباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأنَّ العامي إنَّما حكَّم العالِمَ على نفسه ، ليخرج عن اتّباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب ؛ فإنَّ العبد في تقلباته دائر بين لَمَّتين : لمّة ملَك ، ولمّة شيطان ؛ فهو مخيّر بحكم الابتلاء في الميل إلى أحد الجانبين ، وقد قال تعالى : ( ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها ) ( إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفورا ) ( وهدينه النجدين ) ...
ثمة قضية أخرى ينبغي مراعاتها في هذا الموضوع ، حتى لا تختلط به ؛ وهي الفرق بين الطرائق الشرعية في الفتوى ، التي يسلكها المفتي الناصح ، مراعياً فهمه للوقائع الخاطئة وطبيعة انتشارها ، والآليات التي تؤدي إلى الحكم الصحيح ؛ وأعني بذلك فقه التدرج في التطبيق ، لا التدرج في التشريع ، إذ إن التدرج في التشريع قد انتهى زمنه بانقطاع الوحي ، فالحلال حلال والحرام حرام منذ نزل به الوحي ، إلا أنَّ الحرام قد يحتاج إلى تدرج في سبيل الخلاص منه ، كالفتوى لمن ابتلي بالتدخين بأن يقلل منه في بداية عزمه على التخلص منه ، حتى لا يثقل عليه تركه ، فيفشل في تركه والانقطاع عنه ؛ فهذه السبيل في الفتوى تبقي المحرم محرما ، وتسعى في الخلاص منه بالتدرج في التخلي عنه ، لسبب يخص المسألة محلّ الفتوى ؛ ويشهد للتدرج في التطبيق : نصوص التدرج في التشريع ، مع بقية أدلة الأمر بالمستطاع من مثل قول الله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، ومن السنة من مثل قول النبي e في الصحيح : ( دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
نسأل الله تعالى الثبات على الحق ، مهما خالفه الخلق ..
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله .
(1) جامع العلوم و الحكم ، لابن رجب : 1/97 .
(2) نقلاً عن الشاطبي في الموافقات :5/90-91 .
(3) الموافقات : 5/ 92-93 .
(4) الموافقات : 5/93-94 .
(5) الموافقات :5/94 .[/size]
سألني أحد الأشخاص عن حكم مسألة ما ، فأجبته بما يقتضيه الدليل وقرنت الجواب بدليله ، فبادرني سائلا : هل المسألة متفق عليها أو أن فيها خلافاً ؟ قلت وقد أدركت مبتغاه : وماذا يفيدك الجواب ؟ قال : إن كان فيها خلاف سيكون أسهل عليّ !
وبالتأكيد ليس هذا الشخص فريداً في فكرته هذه ، بل قد ظهرت بين صفوف المنتسبين للاستقامة الظاهرة فكرة البحث عن آراء الفقهاء التي فيها تسهيل في الأحكام الشرعية بغض النظر عن مدى ثبوتها بالأدلة الشرعية ، بل ومع العلم أحياناً بكونها مصنَّفة ضمن الشذوذ الفقهي الصارخ ، والمؤسف حقاً أن يتبنى بعض هؤلاء العمل بها وإن جاءت على خلاف الدليل الصحيح الصريح ؛ بل وتطبيعها والدفاع عنها ، كلّ ذلك استناداً إلى وجود خلاف في المسألة !
ومن هنا فتن هؤلاء بعضَ العوام ، لظهور الترخص في بعض الأحكام الظاهرة لدى المطبقين لهذه الفكرة التبريرية من الرجال والنساء .. فتسبب هؤلاء في ارتكاب المخالفة بغير دليل من الشرع ، وبين صدّ المتبعين للدليل الشرعي من العوام عنه.
وتكمن الخطورة المنهجية في هذا المسلك في ابتغاء الآراء بمعزل عن أدلتها ، وجعل الخلاف ذاته دليلاً على المشروعية ! وهذا – لا شكّ - انحراف منهجي ، يقع فيه بعض المتفقهة فضلا عن غيرهم من الباحثين عن التخفيف من أي طريق كان . فمما لا يخفى على صغار طلبة العلم أنَّ الخلاف ليس معدوداً في الأدلة الشرعية ، لا المتفق عليها ، ولا ما يعبّر عنها بالمختلف فيها . بل النصّ الشرعي ظاهر واضح صريح في حصر الرجوع في حال النزاع إلى الكتاب والسنة ، في مثل قول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .
بل إنَّ مما اختصّ به العلماء في النصيحة لهم ، الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) كما يقول ابن رجب رحمه الله : " ردّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها ، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلِّها ، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها " (1) .
وهذا الانحراف بجعل الخلاف في منزلة الدليل الذي أخذ يستشرى اليوم بين بعض المتفقهة ، ليس انحرافاً جديداً ؛ بل قد نبّه إلى خطورته ومنافاته للشريعة الربانية ، عدد من المحققين من أهل العلم ؛ فقد قال العلامة الباجي المالكي رحمه الله منكراً تكرر مثل هذا الانحراف لدى المستفتِين بسبب ضعف إنكاره : " وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها : لعلّ فيها رواية ؟ أو لعلّ فيها رخصة ؟ وهم يرون أنَّ هذا من الأمور الشائعة الجائزة ! ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي ؛ وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتدّ به في الإجماع أنَّه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحلّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنَّه حقّ ، رضي بذلك من رضيه ، وسخطه من سخطه ، وإنَّما المفتي مخبر عن الله في حكمه ، فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنّه حكَم به وأوجبه ، والله تعالى يقول : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) المائدة 49 . فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي ! أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عمراً لصداقة بينهما ، أو غير ذلك من الأغراض ؟! " (2).
وقال العلامة الشاطبي رحمه الله ، في فصل عقده في الموضوع بعد تعقيبه على كلام الباجي: " وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية ؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدوداً في حُجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان : الاعتمادُ في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم ! لا بمعنى مراعاة الخلاف ، فإنَّ له نظراً آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع ، فيقال : لِمَ تمنع ؟ والمسألة مختلف فيها ، فيجعل الخلاف حُجَّة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها ، لا لدليل يدلّ على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ؛ وهو عين الخطأ على الشريعة ، حيث جعل ما ليس بمعتمدٍ معتمداً ، وما ليس بحجّة حجّة " (3) . ثم أورد نقلاً عن الخطابي جاء فيه : " وليس الاختلاف حُجّة . وبيان السنّة حُجّةٌ على المختلفين[ يعني فيما أورده من المسائل التي اختلف فيها ] من الأولين والآخرين " ثم قال الشاطبي رحمه الله : " والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ به عن نفسه ؛ فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتّباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه "(4) .
وقال الشاطبي رحمه الله مبيناً بعض دعاوى هؤلاء : (( ويقول : إن الاختلاف رحمة ، وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور ، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجَّرت واسعاً ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك . وهذا القول خطأ كلّه ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله "(5)
وقد قسّم رحمه الله الآخذين بهذا المنهج المنحرف إلى ثلاثة أقسام :
الأول : الحاكم به ، والثاني : المفتي به ، والثالث : المقلّد العامل بما أفتاه به المفتي. ثم بين حكم كل قسم إذ قال : " أمَّا الأول ؛ فلا يصح على الإطلاق ؛ لأنَّه كان متخيراً بلا دليل ، لم يكن أحد الخصمين بالحكم أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ...
وأمَّا الثاني ؛ فإنَّه إذا أفتى بالقولين معاً على التخيير فقد أفتى في النازلة على الإباحة، وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز إن لم يكن يبلغ درجة الاجتهاد بالاتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقتٍ واحد ونازلة واحدة أيضاً حسبما بسطه أهل الأصول.
وأيضاً ؛ فإنَّ المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير ، كذلك هذا.
وأمَّا إن كان عاميَّاً ؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتّباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأنَّ العامي إنَّما حكَّم العالِمَ على نفسه ، ليخرج عن اتّباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب ؛ فإنَّ العبد في تقلباته دائر بين لَمَّتين : لمّة ملَك ، ولمّة شيطان ؛ فهو مخيّر بحكم الابتلاء في الميل إلى أحد الجانبين ، وقد قال تعالى : ( ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها ) ( إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفورا ) ( وهدينه النجدين ) ...
ثمة قضية أخرى ينبغي مراعاتها في هذا الموضوع ، حتى لا تختلط به ؛ وهي الفرق بين الطرائق الشرعية في الفتوى ، التي يسلكها المفتي الناصح ، مراعياً فهمه للوقائع الخاطئة وطبيعة انتشارها ، والآليات التي تؤدي إلى الحكم الصحيح ؛ وأعني بذلك فقه التدرج في التطبيق ، لا التدرج في التشريع ، إذ إن التدرج في التشريع قد انتهى زمنه بانقطاع الوحي ، فالحلال حلال والحرام حرام منذ نزل به الوحي ، إلا أنَّ الحرام قد يحتاج إلى تدرج في سبيل الخلاص منه ، كالفتوى لمن ابتلي بالتدخين بأن يقلل منه في بداية عزمه على التخلص منه ، حتى لا يثقل عليه تركه ، فيفشل في تركه والانقطاع عنه ؛ فهذه السبيل في الفتوى تبقي المحرم محرما ، وتسعى في الخلاص منه بالتدرج في التخلي عنه ، لسبب يخص المسألة محلّ الفتوى ؛ ويشهد للتدرج في التطبيق : نصوص التدرج في التشريع ، مع بقية أدلة الأمر بالمستطاع من مثل قول الله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، ومن السنة من مثل قول النبي e في الصحيح : ( دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
نسأل الله تعالى الثبات على الحق ، مهما خالفه الخلق ..
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله .
(1) جامع العلوم و الحكم ، لابن رجب : 1/97 .
(2) نقلاً عن الشاطبي في الموافقات :5/90-91 .
(3) الموافقات : 5/ 92-93 .
(4) الموافقات : 5/93-94 .
(5) الموافقات :5/94 .[/size]