دولة الخلافة العثمانية

لقد كان القرن السابع الهجري، (الثالث عشر الميلادي) فترة سوداء في تاريخ العالم الإسلامي بأسره، ففي الوقت الذي تقدمت فيه جحافل المغول الوثنيين من الشرق، وقضت على الخلافة العباسية في بغداد كانت بقايا الجيوش الصليبية لا تزال تحتل أجزاء من شواطئ فلسطين! ومما زاد الحالة سوءًا أن الدولة الأيوبية التي تولت حماية العالم الإسلامي من هجمات الصليبيين أخذت تضعف بعد وفاة منشئها صلاح الدين. وقد ترتب على هذا أن أخذت مناطق المسلمين تتقلص بين ضربات الوثنيين من الشرق، وحملات المسيحيين من الغرب. وراح بعض الناس يعتقد أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخري، إلا أن الكارثة لم تقع. تُرى ما سبب ذلك؟ يقول المؤرخون: هناك سببان:
أولهما: أنه بالرغم من انتصار المغول على المسلمين في ميدان الحرب فإن الإسلام انتصر عليهم في ميدان العقيدة، ففي أقل من نصف قرن دخل المغول الإسلام، فأصبحوا يدافعون عنه، وينشرونه بين أهليهم في أواسط آسيا.
أما ثانيهما فهو أن دولة المماليك التي خلفت الأيوبيين على مصر في سنة 648هـ/1250م، كانت دولة عسكرية قوية يرأسها قواد الجيش من المماليك.
وكان هؤلاء المماليك، وهم من الأتراك والأرمن وغيرهما، قد وصلوا إلى المناصب العالية في الجيش أثناء حكم الأيوبيين.
وأخيرًا، تولوا الحكم، وعينوا من بينهم السلاطين للدولة، وقد كان لهؤلاء المماليك الفضل في إيقاف زحف المغول عند "عين جالوت" سنة 658/1260 م، كما انتزعوا من الصليبيين "عكا" وكانت آخر معقل لهم في الشرق سنة 692هـ/1292م.
أصل العثمانيين:
يقول المؤرخون : إن الدولة العثمانية كانت أكبر وأبقى دولة أنشأها قوم يتكلمون اللغة التركية في العهود الإسلامية. وهي إلى جانب ذلك أكبر دولة قامت في قرون التاريخ الإسلامي المتأخرة. لقد كان مركزها الأصلي "آسيا الصغري" في أقصي الركن الشمالي الغربي من العالم الإسلامي، ثم امتدَّت فتوحاتها إلى ثلاث قارات هي : آسيا وأوربا وإفريقية. وتركت بصمات قوية في تاريخ العالم عامة والإسلام خاصة، فكيف تم للأتراك العثمانيين ذلك؟ ومَنْ هم؟ ومن أين جاءوا؟
أسئلة كثيرة تخطر بالبال حين يذكر أولئك الأتراك العثمانيون، ويتساءل الكثيرون عن أصلهم، ولابد من طرح هذه الأسئلة قبل الحديث عن حكمهم وفتوحاتهم.
يعتقد الكثيرون أن أصلهم من أواسط آسيا، وقد هاجروا في جماعات نحو الغرب، حتي استقروا أخيرًا في القرن السادس الميلادي بالقرب من منطقة بحر قزوين والجهات الواقعة شمال وشرق بلاد فارس .
وفي أيام الدولة الأموية، تمكنت الجيوش الإسلامية من الوصول إلى منطقة سكناهم، إلا أنهم لم يعتنقوا الإسلام جديّا إلا في أوائل العصر العباسي. وقد قربهم الخليفة المعتصم -كما عرفت- حين أراد أن يقضي علي سيطرة الفرس الذين كانوا يتمتعون بنفوذ كبير في الدولة العباسية وبخاصة في عهد المأمون.
وفي أواخر القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي جاءت موجة أخري من الأتراك (المعروفين بالسلاجقة) وعلي رأسهم "طغرل بك"، وقضوا علي نفوذ البويهيين في بغداد، وخلصوا الخليفة العباسي من استبدادهم، وتقدموا حتى هددوا القسطنطينية، فتكتل المسيحيون في أوربا، وكان ذلك بسبب هزيمتهم أمام السلاجقة في ملاذكرد، وقاموا بتلك الحروب الصليبية التي أمدَّت في عمر القسطنطينية أربعة قرون.
كيف تكونت دولة الأتراك العثمانيين؟
في حوالي سنة 622هـ/1224م كانت جيوش التتار بقيادة جنكيز خان تتقدم إلي الغرب في اتجاه الدولة العباسية.
ومن بين الذين فروا أمام الزحف التتري مجموعة من الترك كانت تسكن منطقة "خُوارزم"، فتحركوا غربًا حتي وصلوا إلي آسيا الصغري بالقرب من دولة "سلاجقة الروم" سنة 1250م تقريبًا. وهناك اتصل قائدهم "أرطغرل" بالسلطان علاء الدين زعيم دولة سلاجقة الروم (وهم فرع آخر من نفس الجنس التركي)، فوافق علاء الدين علي وجودهم، ومنحهم منطقة حول أنقرة ليستقروا فيها علي الحدود بين دولته ودولة البيزنطيين. فلما وصلت جيوش المغول إلى "دولة السلاجقة" وقف "أرطغرل" إلي جانب "علاء الدين"، حيث تمكنا من هزيمة المغول وإنقاذ دولة السلاجقة.
بعد وفاة "أرطغرل" سنة 688هـ/1288م، عُيّن ابنه "عثمان" خلفًا له، فكان قويّا محبوبًا بين أهله، ذا مكانة في بلاط السلطان علاء الدين؛ مما أثار حسد وزرائه.
فلما مات علاء الدين كثرت المؤامرات، وضعفت الدولة، فاغتنم عثمان الفرصة، واستقل عن السلاجقة، وأخذ يضيف بعض أجزاء دولتهم إلى سلطانه، وهكذا تأسست الدولة العثمانية، وكان ذلك في سنة 700 هـ/1300م.
وبذا فقد نسبت تلك المجموعة من الأتراك إلى هذا الرجل العظيم "عثمان" فسموا الأتراك العثمانيين؟ وكان الإسلام هدف العثمانيين وشعارهم، له يعملون، وفي سبيله يجاهدون ويحاربون.
فتوحاتهم المباركة:
كان الطريق مفتوحًا أمام هذه الدولة الناشئة ؛ فلم يكن هناك ما يقف في طريق توسعها؛ حيث إن الإمبراطورية البيزنطية خرجت بعد الحروب الصليبية وهي أسوأ حالا مما كانت عليه من قبل.
ويذكر المؤرخون أَنَّ حملة من الحملات الصليبية قد احتلت القسطنطينية نفسها سنة 602هـ/1204م ، ولم تتخلص عاصمة البيزنطيين منهم إلا بعد أكثر من ستين عامًا، فلما شرع عثمان في التقدم نحو الأقاليم التابعة للدولة البيزنطية وجد الطريق مفتوحًا أمامه.
وقد واصل ابنه "أورخان" هذه الفتوحات حتى بلغ "نيقية" وخضعت له آسيا الصغرى (تركيا)، كما تمكن من عبور "الدردنيل"، والوصول إلى "مقدونيا" غير أنه لم يتقدم نحو أوربا.
وكان لابد أن يتفرغ بعد هذا لتنظيم دولته، فأنشأ جيشًا نظاميّا عُرف بالانكشارية (أى الجنود الجدد) .وكان هذا الجيش مكونًا من أبناء البلاد المفتوحة.
فتم تدريبهم منذ الصغر على الإسلام والعسكرية، وأعدت لهم معسكرات وثكنات يعيشون فيها حتى لا يختلطون بغيرهم، مهمتهم التي أعدوا لها هي الدفاع عن الإسلام مع الفرسان من العثمانيين، فيشبون أقوياء الجسم، مطيعين لقوادهم الذين لايعرفون غير الطاعة الكاملة.. أتدري مَنْ أول من استخدم هذا الجيش استخدامًا فعالا؟
السلطان مراد الأول:
إنه السلطان "مراد الأول" ابن "أورخان" وكان مراد نفسه جنديّا شجاعًا قرر أن يشن حربًا على أوربا بأسرها.
لقد أراد أن ينتقم من الأوربيين لاعتدائهم على الإسلام والشرق أثناء الحروب الصليبية.هذا بالإضافة إلى حماسه للإسلام، وحبه له وللدفاع عنه ضد أعدائه، ورغبته في نشر الإسلام في بلاد الكفر، وتبليغ دعوة الله إلى العالمين، فمن المعروف أن الأتراك من أقوى الشعوب حماسة، ومن أقواهم عاطفة تجاه الإسلام والمسلمين، وكان سمتهم في تعاملهم مع الأسرى سمتًا إسلاميّا يدل على فهمهم للإسلام ولمبادئ الحرب والقتال في الإسلام، وهذا ما شهد به أعداؤهم.
لقد عبرت جيوشه الدردنيل (كما فعل والده من قبل)، واحتل مدينة "أدرنة"، وجعلها عاصمته سنة 765هـ/1362م بدلا من العاصمة القديمة "بروسّة"، وبذلك يكون قد نقل مقر قيادته إلى أوربا استعدادًا لتأديب وإخضاع تلك القارة المعتدية!
شملت فتوحات "مراد": مقدونيا، وبلغاريا، وجزءًا من اليونان والصرب، كما هدد القسطنطينية، وأجبر إمبراطورها على دفع الجزية.
لكن واأسفاه، قتل مراد في ميدان القتال سنة 793هـ/1389م، في الوقت الذي كانت فيه جيوش المسلمين الظافرة تحتل صوفيا عاصمة بلغاريا.
السلطان بايزيد:
فمن يا تُرى يخلفه؟ لقد خلفه ابنه "بايزيد" ومن شابه أباه فما ظلم.كانوا يلقبونه (بالصاعقة)، وذلك لسرعة تحركاته في ميادين القتال وانتصاراته الخاطفة.أتدري ماذا حقق من انتصارات بعد أبيه؟ لقد أتم فتح اليونان. أما الدولة البيزنطية فقد جردها من كل ممتلكاتها ماعدا القسطنطينية وحدها.
لقد بلغ "بايزيد" من القوة ما جعله يمنع إمبراطور القسطنطينية من إصلاح أحد حصون المدينة فيذعن الإمبراطور لأمره، وينزل عند رأيه. وكانت نتيجة هذا الجهاد المقدس انتشار الذعر في جميع أنحاء أوربا، فقام البابوات في روما ينادون بالجهاد ضد المسلمين كما فعلوا سنة 489هـ/1095م، وتجمعت فرق المتطوعين من فرنسا وألمانيا وبولندا وغيرها وقادهم سِجِسْمُنْد المجري.
وفي سنة 799هـ/1396م اشتبك معهم "بايزيد" في معركة "نيقوبولس" وهزمهم هزيمة نكراء، فدقَّت أجراس الكنائس في جميع أوربا حدادًا على تلك الكارثة، وانتابها الذعر والقلق. وراحت أوربا تخشى مصيرها الأسود القاتم إذا تقدم ذلك القائد المظفر نحو الغرب.
أما القسطنطينية فقد أوشكت على السقوط أمام جيوش بايزيد!
هجوم التتار:
في هذه اللحظات التاريخية يتعرض جنوب الدولة العثمانية إلى هجمات التتار، وكانت هذه هي الموجة الثانية (بعد تلك التي قام بها هولاكو) جاء على رأسها تيمورلنك، فغزا بلاد فارس والعراق وأجزاء من سوريا، ثم اتجه شمالا نحو الدولة العثمانية.
ولما شعر بايزيد بذلك الخطر أوقف تقدمه في أوربا كما رفع الحصار عن القسطنطينية، واتجه جنوبًا لملاقاة العدو.
وفي سنة 805هـ/1402م تقابل بايزيد مع تيمورلنك بالقرب من أنقرة، ودارت الحرب بينهما زمنًا طويلا كان النصر فيها حليفًا لقوات التتر! ووقع "بايزيد" في أسر عدوه تيمورلنك الذي عذبه عذابًا شديدًا. ويقال: إنه سجنه في قفص، وطاف به أجزاء مختلفة من الدولة حتى مات من شدة التعذيب.
ترى هل كانت هذه الهزيمة نهايةً للأتراك العثمانيين؟ لا؛ فقد انتعشوا مرة ثانية، وقاموا بأعمال تفوق تلك التي قام بها "عثمان" و"مراد" و"بايزيد".
سقوط القسطنطينية:
مرت على الدولة العثمانية فترتان بين إنشائها واستيلائها على القسطنطينية.كانت الفترة الأولى واقعة بين استقلال عثمان بالدولة سنة 700هـ/1300م وبين هزيمة "بايزيد" في موقعة أنقرة سنة 805هـ/1402م.
أما الفترة الثانية، فتبدأ من إعادة إنشاء الدولة سنة 816هـ/1412م حتى فتح القسطنطينية سنة 858هـ/1453م.
وكانت المدة الواقعة بين هاتين الفترتين -وهي عشر سنوات- مدة قلاقل واضطرابات.
ولكن ماذا فعل تيمورلنك بعد موقعة أنقرة وأسر بايزيد؟
عودة تيمورلنك إلى بلاده:
بعد موقعة أنقرة تراجع تيمورلنك، فلم يكن قصده احتلال آسيا الصغري، بل كان كل همه وأمله أسر بايزيد، أمَا وقد تحقق له ما أراد، فليرجع إلى بلاده، لقد ترك البلاد مهزومة مفككة، وترك أولاد بايزيد يتحاربون فيما بينهم من أجل الملك.
واستمرت فترة حكمه حوالي ثماني سنوات، أخذ يعمل فيها بحكمة وتعقل؛لكي يدعم سلطانه داخل الدولة، فاتبع سياسة المهادنة والصداقة مع كل الأعداء.
لقد عقد هدنة مع إمبراطور القسطنطينية، وقد رحب الإمبراطور بتلك الهدنة؛ لأنه هو الآخر كان في حالة ضعف شديد نتيجة ضربات بايزيد المتوالية على دولته.
أما السلاجقة، فقد ترك لهم "السلطان محمد" كل الأراضي التي تحت أيديهم، وتفادي أي اشتباكات معهم، وركز كل همه في توطيد سلطانه في الداخل، وكان له ما أراد.
السلطان مراد الثاني:
فلما توفي "محمد" وخلفه ابنه "مراد الثاني" سنة 825هـ/1421م، كانت حالة الدولة العثمانية تمكنها من اتخاذ بعض الخطوات الهجومية وقد كان.
فلقد استردّ "مراد الثاني" ما أخذه السلاجقة من أراضي العثمانيين، واستعاد العثمانيون ثقتهم وقوتهم في عهد مراد الثاني، فاتجهوا إلى أوربا.
ولكن أوربا لم تنسَ هزيمتها في "نيقوبولس" وما لحق بها من عار، فراحت تكون جيشًا كبيرًا من المجريين والبولنديين والصرب والبيزنطيين، وهاجمت ممتلكات الدولة العثمانية في "البلقان".
وفي البدء تمكن المسيحيون من إحراز عدة انتصارات على جيوش مراد، إلا أن السلطان "مرادًا" جمع قواته، وأعاد إعدادها وتشكيلها حتى التقى مع أعدائه سنة 849هـ/1444م، فأوقع بهم الهزيمة، وعلى رأسهم ملك المجر "فلادسلاق" وصدهم حتى نهر الدانوب.
رعاك الله يا مراد، لقد أعدت الدولة العثمانية إلى ما كانت عليه أيام جدك بايزيد.
وهكذا لما توفي "مراد الثاني" في "أدرنة" سنة 856هـ/ 1451ترك لابنه محمد الثاني المعروف "بالفاتح" دولة قوية الأركان، عالية البنيان، رافعة أعلامها، متحدة ظافرة منتصرة.
فتح القسطنطينية :
كان أول هدف لمحمد الفاتح القضاء علي القسطنطينية، تلك المدينة التي صمدت أمام كل الهجمات الإسلامية من عهد معاوية ابن أبي سفيان في منتصف القرن السابع الميلادي حتى منتصف القرن الخامس عشر.
لقد كان الاستيلاء عليها أملا يراود الكثيرين من قادة الإمبراطورية الإسلامية وخلفائها، وفخرًا حاول الكثيرون أن ينالوه ويحظوا به، ولم لا وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش". [أحمد والحاكم].
السلطان محمد الفاتح:
جاء محمد الثاني (محمد الفاتح) وكان مع الفتح على موعد، فعقد العزم على فتحها، وإضافتها إلى العالم الإسلامي الكبير، ولم يكن هذا هو هدفه الوحيد، بل كانت هناك عوامل كثيرة تحركه وتدفعه إلى تحقيق هذا النصر وذلك الفتح العظيم، أيقال: إنه فتح الفتوح؟! أم أيقال: إنه فتح باركته ملائكة السماء؟!
وكيف لا، والإمبراطورية البيزنطية كانت العدو الأول للإسلام بعد أن سقطت دولة الفرس في القرن السابع الميلادي، وظلت تصطدم مع المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة الأمويين والعباسيين وما بعدها!
وكثيرًا ما كانت تتحين فرص ضعف الدولة الإسلامية فتغير عليها، وتنتزع بعض أراضيها.
ولا يخفى أن بعد موقعة "ملاذكرد" في القرن الحادي عشر أصبحت القسطنطينية نفسها محورًا تتمركز فيه كل قوى الصليبيين المتجمعة من أطراف القارة الأوربية؛ لتشن الغارة تلو الغارة على الأراضي المقدسة، ومناطق نفوذ المسلمين الأخري.
ولا ينسى أحد للقسطنطينية أنها في سنة 768هـ/1366م، تحالفت مع روما ودول أوربا الأخرى إلا أن بايزيد هزمهم في "نيقوبولس".
ولم يَنْسَ خلفاء الدولة العثمانية للقسطنطينية أنَّها في سنة 846هـ/1441م تآمرت مرة أخرى مع ملوك البلقان ضد مراد الثاني، إلا أن الله نصر مرادًا عليهم فقضى على تحالفهم، وشتت شملهم، وَفرَّق جموعهم.
فلْيقضِ محمد الفاتح على تلك القلعة الحصينة التي كثيرًا ما ضربتهم من الخلف، إن هو أراد أن يستمر في فتوحاته الأوربية.
وراح محمد الفاتح يضع الخطة بإحكام، عقد هدنة مع ملوك المسيحيين في البلقان لمدة ثلاث سنوات. واستغل هذه الفترة الآمنة الهادئة في تحصين حدوده الشمالية وتأمينها. ثم ماذا؟ ثم جهز جيشًا قوامه 60 ألف جندي نظامي، واتجه بهم نحو القسطنطينية وحاصرها، ومع أن حامية القسطنطينية لم تكن تزيد على 8000 جندي إلا أنها كانت محصنة جدّا، فالبحر يحيط بها من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فقد أحيطت بأسوار منيعة، وهذا هو السبب الرئيسي في صمودها طوال هذه القرون واستعصائها على بني أمية وبني العباس.
وقد كان تأخر سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين هو السبب في تأخر انهيار الدولة البيزنطية، فسقوط العاصمة يتسبب عنه سقوط الدولة بأكملها، ولعل ذلك يرجع إلى أن قدرًا من الحضارة المادية كان عند البيزنطيين؛ بحيث يستطيعون تحصين عاصمتهم والدفاع عنها، وقد تأخر سقوط الدولة البيزنطية لمدة ثمانية قرون كاملة، على عكس الدولة الفارسية التي سقطت وزالت مبكرًا نتيجة سقوط "المدائن" عاصمتها في وقت قصير.
إلا أن الأحوال قد تغيرت كثيرًا في سنة 858هـ/1453م عندما حاصرها محمد الفاتح.
وكان العالم قد توصل في ذلك الوقت إلى اكتشاف البارود-الذي يرجع الفضل في اكتشافه إلى العلماء المسلمين-مما جعل الأسوار كوسيلة للدفاع قليلة الفائدة.
وإلى جانب هذا وذاك، فإن الأسطول الإسلامي أصبح أقوى بكثير من أسطول البيزنطيين، فحاصر المدينة من جهة البحر، وأغلق مضيق البسفور في وجه أية مساعدة بحرية.
واستمر الحصار ستة أسابيع، هجمت بعدها الجيوش الإسلامية، وتمكنت من فتح ثغرة في أحد الأسوار، ولكن الحامية المسيحية- برغم قلتها- دافعت دفاعًا مريرًا، ومع ذلك فقد دخل محمد الفاتح القسطنطينية، وغير اسم القسطنطينية إلى "إسلام بول" (أي عاصمة الإسلام)، ولكنها حرفت إلى إستامبول، كما جعل أكبر كنائس المدينة (أيا صوفيا) مسجدًًا بعد أن صلى فيه الجيش الفاتح بعد النصر، أما المسيحيون فلم يعاملهم بما كانوا يعاملون به المسلمين، لقد ترك لهم حرية العبادة، وترك لهم بطريقَهُم يشرف على أمورهم الدينية.
تسامح المنتصر:
وقد وصف فولتير الفيلسوف الفرنسي الشهير موقف المنتصر المسلم من المهزوم المسيحي بقوله : إن الأتراك لم يسيئوا معاملة المسيحيين كما نعتقد نحن، والذي يجب ملاحظته أن أمة من الأمم المسيحية لا تسمح أن يكون للمسلمين مسجد في بلادها بخلاف الأتراك، فإنهم سمحوا لليونان المقهورين بأن تكون لهم كنائسهم، ومما يدل على أن السلطان محمد الفاتح كان عاقلا حكيمًا تركه للنصارى المقهورين الحرية في انتخاب البطريق، ولما انتخبوه ثبته السلطان وسلمه عصا البطارقة، وألبسه الخاتم حتى صرح البطريق عند ذلك بقوله : إني أخجل مما لقيته من التبجيل والحفاوة، الأمر الذي لم يعمله ملوك النصارى مع أسلافي.
هذه هي حضارة الإسلام ومبادئه في ميدان الحرب والتسامح مع أهل الأديان الأخري، على خلاف النصارى في حروبهم مع المسلمين سواء في الحروب الصليبية أو في الأندلس أو في العصر الحديث في كل مكان، فإنهم يقتلون الأبرياء، ويحرقون الأخضر واليابس، ويخربون بيوت الله، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
ولم يكتف "محمد الثاني" بهذا النصر، بل سار إلى أعدائه في الغرب، وأخضع معظم دول البلقان، إلى أن وصل إلى بحر الأدرياتيك، وفي آسيا امتدت سلطة العثمانيين حتى نهر الفرات فهزموا السلاجقة، واستولوا على جميع أراضيهم.
آخر خليفة عباسي:
وجاء "السلطان سليم" بعد محمد الفاتح، فدخلت الجيوش الإسلامية الجزيرة العربية بأسرها، وعَرَّجوا على مصر فقضوا علىحكم المماليك فيها، وضموها لممتلكاتهم.
وفي مصر، وجد السلطانُ سليم آخرَ سلالة الخلفاء العباسيين واسمه "المتوكل على الله الثالث"، وطلب منه أن يتنازل له عن الخلافة فقبل، وقد يتساءل: كيف يكون هناك خليفة عباسي مع أن التتار قضوا على الخلافة العباسية في بغداد سنة 656هـ.
الواقع أنه بعد مقتل الخليفة المستعصم في بغداد تمكن بعض أفراد أسرته من الهروب إلى مصر، فآواهم سلاطين المماليك، ولقبوا أحدهم خليفة، وكانت خلافة رمزية، الغرض منها إكساب دولة الخلافة سمعة كبيرة بوجود الخليفة فيها.
واستمرت سلالة هؤلاء الخلفاء حتى سنة 924هـ/1518م، عندما دخل السلطان سليم مصر وهزم المماليك، ولما أراد العودة إلى العاصمة إسلام بول أخذ معه الخليفة المتوكل على الله الثالث الذي تخلى للسلطان سليم عن الخلافة، وسلمه الراية والسيف والبردة سنة 925هـ/1518م.
سقوط الخلافة العثمانية:
وهكذا انتقلت الخلافة إلى الدولة العثمانية، واستمرت فيها حتى سنة 1342هـ/1923م، حتى ألغاها مصطفى كمال أتاتورك ونقل العاصمة إلى أنقرة عاصمة تركيا الحديثة، وألغى اللغة العربية في 1342هـ/3 مارس 1924م.
وكان اليهود قد حاولوا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني التأثير عليه بشتى الوسائل، وإغرائه بالمال، ليسمح بتأسيس وطن قومي لليهود، فأبي، وقال : تقطع يدي ولا أوقع قرارًا بهذا، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلن أسود صحائف المسلمين من آبائي وأجدادي السلاطين والخلفاء العثمانيين. وتجمعت كل القوى المعادية للإسلام لتقضي على الخلافة، فكان لهم ما أرادوا، وتفرق شمل المسلمين، واستبيحت ديارهم، فإنما يأكل الذئب من الغنم الشاردة، وها نحن أولاء نشهد حربًا تدور في الخفاء والعلن ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان، ولا خلافة لهم تجمع كلمتهم وتدافع عنهم.
منجزات الخلافة العثمانية:
1- فتح القسطنطينية، وتحقيق حلم وأمل المسلمين.
2- وقوف السلطان عبد الحميد في وجه اليهود بقوة، ومنعهم من إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. فيروى أنه بعد عقد مؤتمر بال بسويسرا 1336هـ/1897م والذي قرر اتخاذ فلسطين وطنًا قوميّا لليهود، ذهب (قره صو) إلى الخليفة عبد الحميد، وذكر له أن الحركة الصهيونية مستعدة أن تقدم قرضًا للدولة، قدره خمسون مليونًا من الجنيهات، وأن تقدم هدية لخزانة السلطان الخاصة قدرها خمسة ملايين من الجنيهات، نظير السماح لليهود بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فصرخ الخليفة في حاشيته قائلا:من أدخل على هذا الخنزير. وطرده من بلاده، وأصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين.
3- من أبرز خدماتها للمسلمين أنها أخرت وقوع العالم الإسلامي تحت الاحتلال الأوربي، فما إن زالت الخلافة الإسلامية حتى أتى الغرب على دول المسلمين يبتلعها دولة بعد الأخرى، وقد وقف السلطان سليم الأول ومن بعده ابنه بقوة إلى جانب دولة الجزائر ودول شمال إفريقية وساعدهم في مقاومة الاحتلال الأوربي في بداية الأمر عندما استغاث خير الدين بالسلطان سليم فأمده بالعدة والعتاد.
4- دفاعهم عن الأماكن المقدسة، فعندما حاولت قوات الأسطول البرتغالي (مرتين) أن تحتل جدة وتنفذ منها إلى الأماكن المقدسة في الجزيرة، وقفت في وجهها الأساطيل العثمانية، فارتدت على أعقابها خاسرة، بل إن القوات البحرية أغلقت مضيق عدن في وجه الأساطيل البرتغالية، فكان عليها أن تأتي بالشحنات التجارية وتفرغها في مضيق عدن، ويقوم الأسطول الإسلامي العثماني بتوصيلها إلى عدن والموانئ الإسلامية.
5- ويكفي أن الخلافة العثمانية كانت رمزًا لوحدة المسلمين، وقوة تدافع عن المسلمين وقضاياهم وأراضيهم، بالإضافة إلى الفتوحات الإسلامية، وحرصهم على الإسلام وحبهم له، كيف لا، وقد قامت دولتهم على حب الإسلام بغرض الدفاع عنه.
هذا وقد ظلم التاريخ هذه الخلافة الإسلامية خلافة العثمانيين؛ لأن تاريخها كتب بأيدي أعدائها سواء من الأوربيين أو من العرب الذين تربوا على مناهج الغرب، وظنوا أنها احتلال للبلاد العربية، ولذلك فتاريخ هذه الخلافة يحتاج إلى إعادة كتابة من جديد.