فضليه لأهل بدر

قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:" وما يدريك أن الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" البخاري في المغازي باب غزوة الفتح 7\592 (4274), ومسلم في باب فضائل الصحابة باب من فضل أهل بدر 4\1941, أبو داود, والترمذي وأحمد من حديث الامام علي, وومن حديث أبو هريرة ,الدرامي في الرقاق باب أهل بدر 2\404 رقم 2761, وأحمد في المسند 2\109., أشكل على كثير من الناس معناه, فان ظاهره اباحة مل الأعمال لهم وتخييرهم فيما شاؤوا منها, وذلك ممتنع. ليس المراد من قوله "اعملوا" الاستقبال, وانما هو للماضي, وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته: قال: ويدل على ذلك شيئان:

(أحدهما): أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله: فسأغفر لكم.

(والثاني): أنه كان يكون اطلاقا في الذنوب ولا وجه لذلك.
وحقيقة هذا الجواب اني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم, لكنه ضعيف من وجهين:

(أحدهما) أن لفظ "اعملوا" يأباه, فانه للاستقبال دون الماضي. وقوله" قد غفرت لكم" لا يوجد أن يكون "اعملوا " مثله: فان قوله:" قد غفرت" تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله: {أتى أمر الله} النحل1, و{جاء ربّك}الفجر 22. ونظائره.

(ثانيهما) أن الحديث نفسه يردّه, فان سببه قصّة حاطب وتجسسه على النبي صلى الله عليه وسلم, وذلك ذنب وقع بعد غزوة بدر لا قبلها, وهو سبب الحديث, فهو مراد منه قطعا, فالذي نظن في ذلك, والله أعلم أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه وتعالى أنّهم لا يفارقون دينهم, بل يموتون على الاسلام, وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب, ولكن لا يتركهم سبحانه مصريّن عليها, بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو اثر ذلك. ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأن قد تحقق ذلك فيهم, وأنهم مغفور لهم. ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم, كما لا يقتضي ذلك أن يعطّلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة, فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتجوا بعد ذلك الى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد, وهذا محال.

ومن أوجب الواجبات التوبة بعد ذلك, فضمان المغفرة لا يتوجّب تعطيل أسباب المغفرة, ونظير هذا قوله في حديث آخر: "أذنب عبد ذنبا فقال: أى رب أذذنبت ذنبا فاغفر لي, فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال, رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر له, ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنبا آخر فقال: رب أصبت ذنبا فاغفر لي, فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" البخاري باب التوحيد 13\474 رقم 7507, ومسلم في التوبة باب قبول التوبة من الذنوب 3\2112 رقم29 وأحمد في المسند, ,أبو يعلى,من حديث ابو هريرة. فليس في هذا اطلاق واذن منه سبحانه له في المحرّمات والجرائم, وانما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك اذا أذنب تاب.

واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب, وأنه كلما أذنب تاب, حكم يعم كل من كانت حالته حاله, لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما هو مقطوع لأهل بدر.

وكذلك من بشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له, لم يفهم منه ولا غيره من الصحابة اطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات, بل كانوا هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها, كالعشرة المشهود لهم بالجنة.

وقد كان الصديّق شديد الحذر والمخافة, وطذلك عمر, فانهم علموا أنهم البشارة المطلقة مقيّدة بقيود الاستمرار عليها الى الموت, ومقيّدة بانتفاء موانعها, ولم يفهم أحد منهم من ذلك الاطلاق, الاذن فيما شاؤوا من الأعمال.