بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة على رسول الله وآله
تتابع أئمة الهدى وسلف الأمة الصالح من الصحابة - رضوان الله عليهم - فمن بعدهم على الاحتجاج بالسنة وتوقيرها والرجوع إليها في كل صغيرٍ وكبيرٍ ، والحذر من مخالفتها أو تركها أو التقدم عليها ، من غير تفريق بين متواترها وآحادها ، حتى شذت طوائف عبر التاريخ لم تقم للسنة وزناً ، ولم ترفع بها رأساً ، فمنهم من رفضها جملة وتفصيلاً ، وأنكر أن تكون أصلاً من أصول التشريع ، زاعمين أن في القرآن غنية لهم عن كل ما سواه ، وأنه يتعذر الاطمئنان إلى الأحاديث من جهة الشك في طريقها ، وأنه يجوز على رواتها الخطأ والنسيان والكذب ، فقالوا بوجوب الاقتصار على القرآن.
ومنهم من لجأ إلى التشكيك في بعض أنواعها ، فرأى الحجية في نوع منها دون غيره، وقالوا: لا نقبل من السنة أخبار الخاصة التي تعرف عند المحدثين بأخبار الآحاد (وهي ما لم تجمع شروط التواتر) زعماً منهم أنها لا تفيد اليقين ، ورفضوا العمل والاحتجاج بها ، مهما كان رواتها من العدالة والضبط ، ولم يعتمدوا إلا ما تواتر نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسقطوا بذلك جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي تعارض ما ابتدعوه في أبواب الدين ، وسدُّوا جميع الطرق أمام معرفة الله وأسمائه وصفاته ، وفي مقابل ذلك أحالوا الناس على أمور وهمية ، ومقدمات خيالية سمُّوها - بزعمهم - قواطع عقلية وبراهين يقينية قدَّموها على الوحي، وحاكموا النصوص إليها.
وقد تكاثرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف - بل وإجماعهم - على الاحتجاج بحديث الآحاد ، ولزوم العمل به.
أدلة القرآن
قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122) ، فقد حث الله عز وجل المؤمنين في هذه الآية على أن تنفر من كل فرقة طائفة تقوم بمهمة التفقه والبلاغ ، ولفظ الطائفة يتناول الواحد فما فوقه ، مما يدل على قيام الحجة بخبرها.
ومنها قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} ، وفي قراءة {فتثبتوا} (الحجرات: 6) ، فهذه الآية دلت على أن الخبر إذا جاءنا عن الثقة العدل فإن الحجة تقوم بخبره ، ولا يلزمنا التثبت فيه ، وأما الفاسق فهو الذي يجب أن لا نقبل خبره إلا بعد التثبت والتبين.
ومنها قوله سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43) ، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، وهو يشمل سؤال الواحد والمتعدد ، ولولا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لما كان لسؤالهم فائدة.
وقوله سبحانه: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة: 67) ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ الدين للناس كافة وقام بذلك خير قيام ، ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة لتعذر وصول الشريعة إلى كافة الناس ولما حصل البلاغ ، ومعلوم أن التبليغ باق إلى يوم القيامة والحجة قائمة على العباد.
كما حكى الله عن بعض أنبيائه ورسله السابقين ما يدل على قبولهم لخبر الواحد ، والعمل بمضمونه ، فموسى عليه السلام قبل خبر الرجل الذي جاء من أقصا المدينة يسعى قائلاً له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هارباً ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت له: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} (القصص: 25) ، وقبل خبر أبيها في دعواه أنهما ابنتاه ، فتزوج إحداهما بناء على خبره.
وقبِل يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} (يوسف: 50) ، وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي).
أدلة السنة
وأما أدلة السنة فأكثر من أن تحصر ، ومنها حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) رواه ابن ماجه وغيره ، وفيه ندب - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها حتى ولو كان المؤدي واحداً ، مما يدل على قيام الحجة بخبره ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لم يكن لهذا الندب فائدة تذكر.
وحديث مالك بن الحويرث حين وفد مع بعض قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم) متفق عليه ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن بليل ، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) رواه البخاري وغيره ، وفي رواية لابن عمر: (إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) متفق عليه ، ففي هذه الأحاديث الأمر بتصديق المؤذن ، والعمل بخبره في دخول وقت الصلاة ، والإفطار والإمساك مع أنه واحد ، ولم يزل المسلمون في كل زمان ومكان يقلدون المؤذنين ، ويعملون بأذانهم في هذه العبادات ، وهو من أوضح الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد.
واشتهر بعثه - صلى الله عليه وسلم - الآحاد من صحابته ، واعتماده على أخبارهم وعمله بموجبها ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف ، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم - : (واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها) ، فاعترفت فرجمها ، فاعتمد - صلى الله عليه وسلم - خبره في اعترافها ، مع ما فيه من إقامة حد ، وقتل نفس مسلمة ، وفي يوم الأحزاب اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الزبير وهو واحد حين قال: (من يأتيني بخبر القوم؟).
وتواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبعث الآحاد إلى الجهات القريبة والبعيدة ويحملهم أمور الدعوة والتبليغ وتعليم الناس أحكام الإسلام وشرائعه ، والنيابة عنه في الفتوى والقضاء والفصل في الخصومات ، فمن ذلك ما رواه الشافعي بإسناد صحيح عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت : " بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد " ، وحديث يزيد بن شيبان قال : كنا في موقف لنا بعرفة ، بعيداً عن موقف الإمام ، فأتانا ابن مربع الأنصاري قال : " أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم ، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم " رواه الترمذي وغيره.
وقال لأهل نجران كما في الصحيحين: (لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين) ، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه ، وبعث - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر سنة تسع على الحج فأقام للناس مناسكهم نيابة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث علياً تلك السنة فنبذ إلى قوم عهودهم ، وبلغ عنه أول سورة براءة ، وبعث قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ومالك بن نويرة إلى عشائرهم ، لتعليمهم الأحكام ، وقبض الزكاة ، وبعث معاذاً وأبا موسى وعماراً وغيرهم إلى جهات متفرقة باليمن.
واشتهر أيضاً بعثه الأمراء في السرايا والبعوث ، وأمره بطاعتهم فيما يخبرون عنه ، وكذلك كتبه التي بعثها إلى الملوك في زمانه ، كان يتولى كتابتها واحد ، ويحملها شخص واحد غالباً ، كما بعث دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم ، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى.
ومثلها كتبه التي كان يبعثها إلى ولاته وعماله بأوامره وتعليماته يكتبها واحد ويحملها واحد ، ولولا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لكان بعثهم عبثاً ، ولحصل التوقف من المدعوين ، ولم ينقل أن أحداً منهم قال لمن علمه شيئاً من الدين ، أو طلب منه جزية أو زكاة أو نحوها : إن خبرك لا يفيد العلم ، فأنا أتوقف حتى يتواتر الخبر بما ذكرت.
الإجماع
وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد والاحتجاج به ، ولم ينقل أن أحداً منهم قال: إن هذا خبر واحد يمكن عليه الخطأ فلا تقوم به الحجة حتى يتواتر ، ولو قال أحد منهم ذلك لنقل إلينا ، وقد نقلت عنهم في هذا الباب آثار لا تحصى منها:
ما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ، ولولا حصول العلم لهم بخبر الواحد ، لما تركوا المعلوم المقطوع به عندهم لخبر لا يفيد العلم ولا تقوم به الحجة.
وحديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين قال : " كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة ، وأبي بن كعب شراباً من فضيخ ، فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها " ، حيث قطعوا بتحريم الخمر ، وأقدموا على إتلاف ما بأيديهم من مال تصديقاً لذلك المخبر ، ولم يقولوا : نبقى على حلها حتى يتواتر الخبر أو نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع قربهم منه ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت.
وكذلك قضاء عمر - رضي الله عنه - في الجنين حين قال لأصحابه: " أَذْكَرَ الله امرءا سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً ، فقام حمل بن مالك فقال: " كنت بين جارتين لي ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنيناً ميتاً ، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة ، فقال عمر: " لو لم نسمع به لقضينا بغيره "، ورجوعه بالناس حين خرج إلى الشام فبلغه أن الوباء قد وقع بها ، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا سمعتم به ببلدة فلا تقدموا عليه ) متفق عليه ، وقبِل خبر عبد الرحمن أيضاً في أخذ الجزية من مجوس هجر ، بعد أن قال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ، وغيرها كثير.
ولم يزل سبيل السلف الصالح ومن بعدهم قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والاحتجاج به حتى جاء المتكلمون فخالفوا ذلك ، قال الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة: " وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل ، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان... ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه والإفتاء به ، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ، ويقبله عنه من تحته ، ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه - بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " اهـ.
وقال في الأم: " لم أسمع أحداً - نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتسليم لحكمه ، فإن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قولٌ بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلا فرقة سأصف قولها - إن شاء الله تعالى - " اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله ابن القيم في مختصر الصواعق: " وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتواتر لفظه ولا معناه ، لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له... فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين ، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع " اهـ.
وبهذا يتضح - بما لا يدع مجالاً للشك - حجية أخبار الآحاد ولزوم العمل بها في أمور الدين كله متى ما ثبتت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، وأن القول بعدم حجيتها قول باطل لا يعرف إلا عن أهل البدع ومن تبعهم ، ولو ترك الاحتجاج بها لهجرت السنة ، وتهاوت أركان الشريعة ، واندثر الحق.
قال الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحه الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: " فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد " إلى أن قال: وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد إلى ترك السنن كلها ، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد " اهـ.
منقول الشبكة الإسلامية
أقوال منقولة للعلماء في المسألة
قال الإمام الشافعي "ت 204هـ": "لو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الآحاد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلاَّ قد أثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت بأن ذلك موجود على كلِّهم قال: فإن شبه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا وحديث كذا وكان فلان يقول قولا يخالف ذلك الحديث.
فلا يجوز عندي عن عالم أن يثبت خبر واحد كثيرا ويحل به ويحرم ويرد مثله-: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه أو يكون ما سمع و من سمع منه أوثق عنده ممن حدثه خلافه أو يكون من حدثه ليس بحافظ أو يكون متهما عنده أو يتهم من فوقه ممن حدثه أو يكون الحديث محتملا" الرسالة ص 427.
وبوَّب البخاري لذلك فقال: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، وذكر فيه خمسة عشر حديثاً.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ": "المراد بالإجازة: جواز العمل به والقول بأنه حجة، وقصد بالترجمة الرد على من يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به إلاَّ إذا رواه أكثر من شخص واحد يصير كالشهادة ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر" فتح الباري 13/233.
وقال ابن بطال "ت 444هـ": انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد " فتح الباري 13/321
وقال الإمام أبو محمد بن حزم "ت 457 هـ": "قال أبو سليمان، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معاً وبهذا نقول ".
وقال أيضاً: " القرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله، فمن جاءه خبر عن رسول الله يقرُّ أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أولقول فلان وفلان فقد خالف الله وأمر رسوله" الإحكام 1/98، 102، 108 بتصرف.
وقال الخطيب البغدادي "ت 463هـ": "وعلى العمل بخبر الواحد كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه "الكفاية ص 72.
وقال ابن عبد البر "ت 463هـ": "وكلهم يرون خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرناه "التمهيد 1/34.
وقال: "خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل الإسناد يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة "جامع بيان العلم 2/34.
وقال ابن دحية" ت 633هـ": "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد ويدينون به في الاعتقاد" الابتهاج في أحاديث المنهاج ص 78..
وهو ما رجحه الحافظ ابن الصلاح "ت 643هـ" في ( مقدمة علوم الحديث) ص 24. قال - بعد ذكره لأقسام الصحيح -: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لمن نفى ذلك".
وتعقبه الإمام النووي "ت 676 هـ" فقال: "خالفه المحققون والأكثرون" التقريب ص 14.
قلتُ: ولم أجد من وافق الإمام النووي على هذا القول، بل إنه قال في "شرحه لصحيح مسلم"1/131: "الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل...".
وقال الإمام ابن كثير "ت 774 هـ": - بعد كلام ابن الصلاح -: "وهذا جيد وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، ثم وقفت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية مضمونه: نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة، منهم: القاضي عبدالوهاب المالكيهو الإمام الفقيه أبو محمد البغدادي (ت 422هـ)،
والشيخ أبو حامد الإسفراييني هو محمد بن أحمد شيخ الشافعية في زمانه (ت 406هـ)،
والقاضي أبو الطيب الطبري الإمام العالم ظاهر بن عبدالله أحد فقهاء الشافعية (ت 450هـ).،
والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد أبو عبدالله الحسن بن حامد البغدادي (ت 403هـ)
وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب هو الفقيه محفوظ بن أحمد الكلوزاني البغدادي (ت 510هـ).
وابن الزعفراني هو الفقيه شيخ الحنابلة في عصره علي بن عبيد الله بن نصر البغدادي (ت 527هـ).
وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية... ".
وقال أيضاً: " وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحاق الإسفراييني -هو إبراهيم بن محمد بن مهران (218هـ).
وابن فورك، وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"انظر الفتاوى 18/40.
قال ابن كثير: "وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء الأئمة الأربعة " الباعث الحثيث 1/127.
وقال ابن القيم: "ت 751هـ":"ومعلوم مشهور استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القبول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى ومسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة وإخراج الموحدين من المذنبين من النار... وهذه الأشياء، علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"مختصر الصواعق المرسلة 1/332..
وقال أيضاً: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها في الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث العملية التي تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم من أهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه يجوِّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟! نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين..." المرجع السابق 2/412.
وقال أيضاً: "والذي ندين به ولا يسعنا غيره: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد كائنا من كان لا راويه ولا غيره"إعلام الموقعين 4/408 تحقيق مشهور.
وقال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ" :يقبل خبر الواحد وإن كان امرأة فتح الباري 1/308
وقال أيضاً: " قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به"فتح الباري 1/308.
ونقل عن الإمام ابن دقيق العيد "ت 702هـ قوله: "المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة"فتح الباري 1/381.
وقال أبو الحسنات اللكنوي "ت 1304هـ": - عن حكم العمل بحديث الآحاد-: "وحكمه أنه يجب العمل به مالم يكن مخالفاً للكتاب والسنة... وهو الصحيح المختار عند الجمهور"ظفر الأماني ص 61.
وقال الشيخ محمد الخضري " ت 1345 هـ ": "تواتر عن الصحابة في وقائع لا تحصى العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على إيجاب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التي ظنوها باجتهادهم إذا روي لهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أصول الفقه ص 280.
وقال أحمد شاكر " ت 1377هـ ": "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، وهذا العلم يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته واطمأن قلبه.... ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد، ومنه زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنكاراً لما يشعر به كل واحد من الناس من اليقين بالشيء ثم ازدياد هذا اليقين" الباعث الحثيث 1/125
تتابع أئمة الهدى وسلف الأمة الصالح من الصحابة - رضوان الله عليهم - فمن بعدهم على الاحتجاج بالسنة وتوقيرها والرجوع إليها في كل صغيرٍ وكبيرٍ ، والحذر من مخالفتها أو تركها أو التقدم عليها ، من غير تفريق بين متواترها وآحادها ، حتى شذت طوائف عبر التاريخ لم تقم للسنة وزناً ، ولم ترفع بها رأساً ، فمنهم من رفضها جملة وتفصيلاً ، وأنكر أن تكون أصلاً من أصول التشريع ، زاعمين أن في القرآن غنية لهم عن كل ما سواه ، وأنه يتعذر الاطمئنان إلى الأحاديث من جهة الشك في طريقها ، وأنه يجوز على رواتها الخطأ والنسيان والكذب ، فقالوا بوجوب الاقتصار على القرآن.
ومنهم من لجأ إلى التشكيك في بعض أنواعها ، فرأى الحجية في نوع منها دون غيره، وقالوا: لا نقبل من السنة أخبار الخاصة التي تعرف عند المحدثين بأخبار الآحاد (وهي ما لم تجمع شروط التواتر) زعماً منهم أنها لا تفيد اليقين ، ورفضوا العمل والاحتجاج بها ، مهما كان رواتها من العدالة والضبط ، ولم يعتمدوا إلا ما تواتر نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسقطوا بذلك جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي تعارض ما ابتدعوه في أبواب الدين ، وسدُّوا جميع الطرق أمام معرفة الله وأسمائه وصفاته ، وفي مقابل ذلك أحالوا الناس على أمور وهمية ، ومقدمات خيالية سمُّوها - بزعمهم - قواطع عقلية وبراهين يقينية قدَّموها على الوحي، وحاكموا النصوص إليها.
وقد تكاثرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف - بل وإجماعهم - على الاحتجاج بحديث الآحاد ، ولزوم العمل به.
أدلة القرآن
قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (التوبة: 122) ، فقد حث الله عز وجل المؤمنين في هذه الآية على أن تنفر من كل فرقة طائفة تقوم بمهمة التفقه والبلاغ ، ولفظ الطائفة يتناول الواحد فما فوقه ، مما يدل على قيام الحجة بخبرها.
ومنها قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} ، وفي قراءة {فتثبتوا} (الحجرات: 6) ، فهذه الآية دلت على أن الخبر إذا جاءنا عن الثقة العدل فإن الحجة تقوم بخبره ، ولا يلزمنا التثبت فيه ، وأما الفاسق فهو الذي يجب أن لا نقبل خبره إلا بعد التثبت والتبين.
ومنها قوله سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43) ، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، وهو يشمل سؤال الواحد والمتعدد ، ولولا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لما كان لسؤالهم فائدة.
وقوله سبحانه: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة: 67) ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ الدين للناس كافة وقام بذلك خير قيام ، ولو كان خبر الواحد لا تقوم به الحجة لتعذر وصول الشريعة إلى كافة الناس ولما حصل البلاغ ، ومعلوم أن التبليغ باق إلى يوم القيامة والحجة قائمة على العباد.
كما حكى الله عن بعض أنبيائه ورسله السابقين ما يدل على قبولهم لخبر الواحد ، والعمل بمضمونه ، فموسى عليه السلام قبل خبر الرجل الذي جاء من أقصا المدينة يسعى قائلاً له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هارباً ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت له: {إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} (القصص: 25) ، وقبل خبر أبيها في دعواه أنهما ابنتاه ، فتزوج إحداهما بناء على خبره.
وقبِل يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال له: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} (يوسف: 50) ، وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي).
أدلة السنة
وأما أدلة السنة فأكثر من أن تحصر ، ومنها حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) رواه ابن ماجه وغيره ، وفيه ندب - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها حتى ولو كان المؤدي واحداً ، مما يدل على قيام الحجة بخبره ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لم يكن لهذا الندب فائدة تذكر.
وحديث مالك بن الحويرث حين وفد مع بعض قومه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم) متفق عليه ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن بليل ، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) رواه البخاري وغيره ، وفي رواية لابن عمر: (إن بلالاً يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) متفق عليه ، ففي هذه الأحاديث الأمر بتصديق المؤذن ، والعمل بخبره في دخول وقت الصلاة ، والإفطار والإمساك مع أنه واحد ، ولم يزل المسلمون في كل زمان ومكان يقلدون المؤذنين ، ويعملون بأذانهم في هذه العبادات ، وهو من أوضح الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد.
واشتهر بعثه - صلى الله عليه وسلم - الآحاد من صحابته ، واعتماده على أخبارهم وعمله بموجبها ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف ، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم - : (واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها) ، فاعترفت فرجمها ، فاعتمد - صلى الله عليه وسلم - خبره في اعترافها ، مع ما فيه من إقامة حد ، وقتل نفس مسلمة ، وفي يوم الأحزاب اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الزبير وهو واحد حين قال: (من يأتيني بخبر القوم؟).
وتواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبعث الآحاد إلى الجهات القريبة والبعيدة ويحملهم أمور الدعوة والتبليغ وتعليم الناس أحكام الإسلام وشرائعه ، والنيابة عنه في الفتوى والقضاء والفصل في الخصومات ، فمن ذلك ما رواه الشافعي بإسناد صحيح عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت : " بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد " ، وحديث يزيد بن شيبان قال : كنا في موقف لنا بعرفة ، بعيداً عن موقف الإمام ، فأتانا ابن مربع الأنصاري قال : " أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم ، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم " رواه الترمذي وغيره.
وقال لأهل نجران كما في الصحيحين: (لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين) ، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه ، وبعث - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر سنة تسع على الحج فأقام للناس مناسكهم نيابة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث علياً تلك السنة فنبذ إلى قوم عهودهم ، وبلغ عنه أول سورة براءة ، وبعث قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ومالك بن نويرة إلى عشائرهم ، لتعليمهم الأحكام ، وقبض الزكاة ، وبعث معاذاً وأبا موسى وعماراً وغيرهم إلى جهات متفرقة باليمن.
واشتهر أيضاً بعثه الأمراء في السرايا والبعوث ، وأمره بطاعتهم فيما يخبرون عنه ، وكذلك كتبه التي بعثها إلى الملوك في زمانه ، كان يتولى كتابتها واحد ، ويحملها شخص واحد غالباً ، كما بعث دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل عظيم الروم ، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى.
ومثلها كتبه التي كان يبعثها إلى ولاته وعماله بأوامره وتعليماته يكتبها واحد ويحملها واحد ، ولولا أن أخبارهم تقوم بها الحجة لكان بعثهم عبثاً ، ولحصل التوقف من المدعوين ، ولم ينقل أن أحداً منهم قال لمن علمه شيئاً من الدين ، أو طلب منه جزية أو زكاة أو نحوها : إن خبرك لا يفيد العلم ، فأنا أتوقف حتى يتواتر الخبر بما ذكرت.
الإجماع
وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد والاحتجاج به ، ولم ينقل أن أحداً منهم قال: إن هذا خبر واحد يمكن عليه الخطأ فلا تقوم به الحجة حتى يتواتر ، ولو قال أحد منهم ذلك لنقل إلينا ، وقد نقلت عنهم في هذا الباب آثار لا تحصى منها:
ما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ، ولولا حصول العلم لهم بخبر الواحد ، لما تركوا المعلوم المقطوع به عندهم لخبر لا يفيد العلم ولا تقوم به الحجة.
وحديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين قال : " كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة ، وأبي بن كعب شراباً من فضيخ ، فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها " ، حيث قطعوا بتحريم الخمر ، وأقدموا على إتلاف ما بأيديهم من مال تصديقاً لذلك المخبر ، ولم يقولوا : نبقى على حلها حتى يتواتر الخبر أو نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع قربهم منه ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت.
وكذلك قضاء عمر - رضي الله عنه - في الجنين حين قال لأصحابه: " أَذْكَرَ الله امرءا سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً ، فقام حمل بن مالك فقال: " كنت بين جارتين لي ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنيناً ميتاً ، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة ، فقال عمر: " لو لم نسمع به لقضينا بغيره "، ورجوعه بالناس حين خرج إلى الشام فبلغه أن الوباء قد وقع بها ، لما أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا سمعتم به ببلدة فلا تقدموا عليه ) متفق عليه ، وقبِل خبر عبد الرحمن أيضاً في أخذ الجزية من مجوس هجر ، بعد أن قال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ، وغيرها كثير.
ولم يزل سبيل السلف الصالح ومن بعدهم قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والاحتجاج به حتى جاء المتكلمون فخالفوا ذلك ، قال الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة: " وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل ، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان... ومحدِّثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه والإفتاء به ، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه ، ويقبله عنه من تحته ، ولو جاز لأحدٍ من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه - بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " اهـ.
وقال في الأم: " لم أسمع أحداً - نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتسليم لحكمه ، فإن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قولٌ بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إلا فرقة سأصف قولها - إن شاء الله تعالى - " اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله ابن القيم في مختصر الصواعق: " وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتواتر لفظه ولا معناه ، لكن تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له... فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد من الأولين والآخرين ، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع " اهـ.
وبهذا يتضح - بما لا يدع مجالاً للشك - حجية أخبار الآحاد ولزوم العمل بها في أمور الدين كله متى ما ثبتت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، وأن القول بعدم حجيتها قول باطل لا يعرف إلا عن أهل البدع ومن تبعهم ، ولو ترك الاحتجاج بها لهجرت السنة ، وتهاوت أركان الشريعة ، واندثر الحق.
قال الإمام ابن حبان في مقدمة صحيحه الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: " فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد " إلى أن قال: وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد ، فقد عمد إلى ترك السنن كلها ، لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد " اهـ.
منقول الشبكة الإسلامية
أقوال منقولة للعلماء في المسألة
قال الإمام الشافعي "ت 204هـ": "لو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الآحاد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلاَّ قد أثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت بأن ذلك موجود على كلِّهم قال: فإن شبه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا وحديث كذا وكان فلان يقول قولا يخالف ذلك الحديث.
فلا يجوز عندي عن عالم أن يثبت خبر واحد كثيرا ويحل به ويحرم ويرد مثله-: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه أو يكون ما سمع و من سمع منه أوثق عنده ممن حدثه خلافه أو يكون من حدثه ليس بحافظ أو يكون متهما عنده أو يتهم من فوقه ممن حدثه أو يكون الحديث محتملا" الرسالة ص 427.
وبوَّب البخاري لذلك فقال: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، وذكر فيه خمسة عشر حديثاً.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ": "المراد بالإجازة: جواز العمل به والقول بأنه حجة، وقصد بالترجمة الرد على من يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به إلاَّ إذا رواه أكثر من شخص واحد يصير كالشهادة ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر" فتح الباري 13/233.
وقال ابن بطال "ت 444هـ": انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد " فتح الباري 13/321
وقال الإمام أبو محمد بن حزم "ت 457 هـ": "قال أبو سليمان، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معاً وبهذا نقول ".
وقال أيضاً: " القرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله، فمن جاءه خبر عن رسول الله يقرُّ أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أولقول فلان وفلان فقد خالف الله وأمر رسوله" الإحكام 1/98، 102، 108 بتصرف.
وقال الخطيب البغدادي "ت 463هـ": "وعلى العمل بخبر الواحد كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه "الكفاية ص 72.
وقال ابن عبد البر "ت 463هـ": "وكلهم يرون خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرناه "التمهيد 1/34.
وقال: "خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل الإسناد يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة "جامع بيان العلم 2/34.
وقال ابن دحية" ت 633هـ": "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد ويدينون به في الاعتقاد" الابتهاج في أحاديث المنهاج ص 78..
وهو ما رجحه الحافظ ابن الصلاح "ت 643هـ" في ( مقدمة علوم الحديث) ص 24. قال - بعد ذكره لأقسام الصحيح -: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لمن نفى ذلك".
وتعقبه الإمام النووي "ت 676 هـ" فقال: "خالفه المحققون والأكثرون" التقريب ص 14.
قلتُ: ولم أجد من وافق الإمام النووي على هذا القول، بل إنه قال في "شرحه لصحيح مسلم"1/131: "الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل...".
وقال الإمام ابن كثير "ت 774 هـ": - بعد كلام ابن الصلاح -: "وهذا جيد وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، ثم وقفت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية مضمونه: نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة، منهم: القاضي عبدالوهاب المالكيهو الإمام الفقيه أبو محمد البغدادي (ت 422هـ)،
والشيخ أبو حامد الإسفراييني هو محمد بن أحمد شيخ الشافعية في زمانه (ت 406هـ)،
والقاضي أبو الطيب الطبري الإمام العالم ظاهر بن عبدالله أحد فقهاء الشافعية (ت 450هـ).،
والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد أبو عبدالله الحسن بن حامد البغدادي (ت 403هـ)
وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب هو الفقيه محفوظ بن أحمد الكلوزاني البغدادي (ت 510هـ).
وابن الزعفراني هو الفقيه شيخ الحنابلة في عصره علي بن عبيد الله بن نصر البغدادي (ت 527هـ).
وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية... ".
وقال أيضاً: " وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحاق الإسفراييني -هو إبراهيم بن محمد بن مهران (218هـ).
وابن فورك، وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"انظر الفتاوى 18/40.
قال ابن كثير: "وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء الأئمة الأربعة " الباعث الحثيث 1/127.
وقال ابن القيم: "ت 751هـ":"ومعلوم مشهور استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القبول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى ومسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة وإخراج الموحدين من المذنبين من النار... وهذه الأشياء، علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"مختصر الصواعق المرسلة 1/332..
وقال أيضاً: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها في الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث العملية التي تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم من أهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه يجوِّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟! نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين..." المرجع السابق 2/412.
وقال أيضاً: "والذي ندين به ولا يسعنا غيره: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد كائنا من كان لا راويه ولا غيره"إعلام الموقعين 4/408 تحقيق مشهور.
وقال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ" :يقبل خبر الواحد وإن كان امرأة فتح الباري 1/308
وقال أيضاً: " قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به"فتح الباري 1/308.
ونقل عن الإمام ابن دقيق العيد "ت 702هـ قوله: "المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة"فتح الباري 1/381.
وقال أبو الحسنات اللكنوي "ت 1304هـ": - عن حكم العمل بحديث الآحاد-: "وحكمه أنه يجب العمل به مالم يكن مخالفاً للكتاب والسنة... وهو الصحيح المختار عند الجمهور"ظفر الأماني ص 61.
وقال الشيخ محمد الخضري " ت 1345 هـ ": "تواتر عن الصحابة في وقائع لا تحصى العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على إيجاب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التي ظنوها باجتهادهم إذا روي لهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أصول الفقه ص 280.
وقال أحمد شاكر " ت 1377هـ ": "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، وهذا العلم يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته واطمأن قلبه.... ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد، ومنه زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنكاراً لما يشعر به كل واحد من الناس من اليقين بالشيء ثم ازدياد هذا اليقين" الباعث الحثيث 1/125