الفصل الرابع
إثبات صفة اليدين لله تعالى على الحقيقة لا على المجاز
لقد تنوعت دلالات الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله تعالى، بما يمتنع معها حمل اليدين على المجاز، وقد أطبقت كلمة السلف رحمهم الله على إثبات اليدين لله تعالى صفة له في ذاته، ليستا بنعمتين ولا قدرتين، بل يدان ثابتتان لله تعالى على الحقيقة، بلا كيف ولا تشبيه.
وأنا أذكر نماذج من تنوع الأدلة على إثبات صفة اليد لله تعالى:
التثنية:
قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64.
تثنية اليد المضافة إليه سبحانه تمنع من حملها على النعمة أو القدرة.
نسبة الفعل إليه سبحانه وتعديته إلى اليد بحرف الباء:
قال: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ص75.
نسب الفعل -وهو الخلق- إلى نفسه، ثم عدى الفعل إلى اليد، ثم ثناها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قول القائل" كتبت بالقلم" و"ضربت بيدي"، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه من الوجوه، إذا لا يكون هذا التركيب إلا ما باشرته اليد.
قال أبو الحسن الزاغوني في "الإيضاح": (أنه أضاف "الخلق" وهو فعل يده سبحانه، والفعل متى أضيف إلى اليد فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل وليس إلا اليد كما ذكرنا، وهذا جلي واضح)[93] اهـ.
وقال أبو الحسن الأشعري: (وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى: {بيدي} ص75، النعمة، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل: لي عليه يدي، بمعنى لي عليه نعمتي، ومن دافَعَنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة، إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها، وأن لا يثبت اليد نعمة من قِبَلها، لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى: {بيدي} ص75، نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: بيدي، يعني نعمتي، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد له سبيلا)[94] اهـ.
استعمال لفظ اليمين ووصفها بالطي
قال تعالى: {والسموات مطويات بيمينه} الزمر67.
وعن عبد الله بن عمرو t قال: قال r: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)[95].
وصفها بالقبض والهز
قال تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} الزمر67.
وعن أبي هريرة t سمعت رسول الله r يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض)[96].
فها هنا: هز، وقبض، وطي، وذكر يدين.
وصفها بالبسط
قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64.
وعن أبي موسى t عن النبي r قال: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)[97].
وصفها بالكف والأخذ
عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (ما تصدق أحد بصدقة من طيّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فَلُوّه أو فصيله). وفي لفظ (من كسب طيب)[98].
فها هنا: أخذ، وذكر كف ويمين.
وصفها بالنضح
عن لقيط بن عامر t في الحديث الطويل عن النبي r وفيه: (فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطي وجه واحد منكم قطرة، فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم الأسود)[99].
وصفها بالشمال
عن عبد الله بن عمر t قال: قال رسول الله r: ( يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)[100].
وصفها بالأصابع
عن عبد الله t قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله r فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي r حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله r {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} الزمر67)[101].
وصفها بأنها ملئى، وبأنها أخرى
عن أبي هريرة t: أن رسول الله r قال: (يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وقال: وكان عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)[102].
فها هنا: وصف بأنها ملئى، وسحاء، وأنها أخرى.
ومن المعلوم أن لفظ: الطي، والقبض، والهز، والبسط، والإمساك، والنضح، وكونها ملئى، وسحاء، إذا اقترنت باليد صار المجموع حقيقة، وامتنع من أن يكون مجازاً، إذ أن اليد المجازية لا يقترن بها ما يدل على اليد حقيقة كهذه الألفاظ. فإذا انضاف إلى ذلك أن ذُكر لها: أصابع، وكف، ويمين، وشمال، وأخرى، فهذا مما يُقطع معه أن اليد حقيقة، لأن اليد المجازية لا يُتجاوز فيها لفظ اليد، ولا يُتصرف فيها بما يُتصرف في اليد الحقيقية. فلا يقال: كف، لا للنعمة ولا للقدرة، ولا أصبع وأصبعان، ولا يمين، ولا شمال، وهذا كله ينفي أن يكون اليد يد النعمة، أو يد القدرة، أو يد التصرف.
فمن ادعى بعد هذا أن اليد المضافة إلى الله تعالى مجاز، فلا حقيقة في الوجود!!!
وبهذا يتبين أن صفة اليد لله تعالى حقيقة لا مجاز، ولا يأبى ذلك إلا مكابر.
ومما يؤكد هذا أن يُقال: أن اليد لغة لا تضاف إلا لذي يد، فيد القدرة والنعمة لا يُعرف استعمالها البتة إلا في حق من له يد حقيقة، وموارد استعمالها مطردة في ذلك، ولا يعرف العرب خلاف ذلك. فحيث ذكرت اليد وأضيفت إلى حي متصف بصفات الأحياء وأريد بها النعمة أو القدرة، فإن هذا مستلزم ثبوت أصل اليد له حقيقة حتى يصح استعمالها في مجازاتها، فإذا امتنعت حقيقة اليد امتنع استعمالها فيها، فثبوت المعنى المجازي دليل على ثبوت حقيقة اليد.
قال عثمان بن سعيد الدارمي: (فإن لم يكن المضاف إلى يده من ذوي الأيدي، يستحيل أن يُقال: بيده شيء من الأشياء .... فيجوز أن يُقال: بين يدي كذا وكذا كذا كذا، لما هو من ذوي الأيدي، وممن ليس من ذوي الأيدي. ولا يجوز أن يُقال: بيده، إلا لمن هو من ذوي الأيدي..)[103] اهـ.
ولا يَرِد على هذا قول العرب: "يد الليل" و"يدي الرحمة"، لأنا قلنا: متى أضيفت اليد المجازية إلى الحي دون غيره، استلزمت اليد الحقيقية.
على أنه يُقال: أن المضاف من جنس المضاف إليه، فإذا أضيفت اليد إلى الحيوان كانت من جنسه، وإذا أضيفت إلى الحائط أو الليل كانت من جنسهما. فإذا كان المضاف إليه لا يماثل غيره لزم أن يكون المضاف كذلك ضرورة، فإذا قيل يد الله كان ذلك حقيقة غير مستلزم للتشبيه.
وأما نصوص السلف فقد سبق ذكر بعضها:
~ الإمام التابعي حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي (82 هـ)
قال: (إن الله تبارك وتعالى لم يمس بيده من خلقه غير ثلاثة أشياء خلق الجنة بيده ثم جعل ترابها الورس والزعفران وجبالها المسك وخلق آدم بيده وكتب التوراة لموسى)[104] اهـ.
وهذا صريح في إثبات حقيقة اليد لله تعالى.
~ زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (93 هـ)
قال مستقيم: قال كنا عند علي بن حسين ،قال: فكان يأتيه السائل، قال: فيقوم حتى يناوله، ويقول: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، قال: وأومأ بكفيه)[105] اهـ.
~ التابعي العابد خالد بن معدان الكلاعي الحمصي (103 هـ)
قال: «إن الله عز وجل لم يمس بيده إلا آدم صلوات الله عليه خلقه بيده، والجنة، والتوراة كتبها بيده»[106] اهـ.
~ عكرمة أبو عبد الله مولى بن عباس (104 هـ)
قال: «إن الله عز وجل لم يمس بيده شيئا إلا ثلاثاً: خلق آدم بيده، وغرس الجنة بيده ، وكتب التوراة بيده»[107] اهـ.
وقال أيضاً: (قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64: يعني اليدين)[108] اهـ.
~ الإمام التابعي ربيعة الخرشي
قال في قول الله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الزمر67، قال: (ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء)[109] اهـ.
وهذا صريح في إثبات حقيقة اليد لله، وأنها ليست النعمة أو القدرة.
~ الإمام التابعي عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة (117 هـ)
قال نافع بن عمر الجمحي: (سألت ابن أبي مليكة عن يد الله: أواحدة أو اثنتان؟ قال: بل اثنتان.)[110] اهـ.
وهذا أيضاً بيّن في إثبات حقيقة اليد لله عز وجل، وإبطال حملها على المجاز والقول بأنها النعمة أو القدرة.
فرع: تقرير إثبات صفة اليد لله على الحقيقة من كلام أبي الحسن الأشعري
قد سبق نقل كلام أبي الحسن الأشعري في إثبات صفة اليدين لله تعالى، والمنع من تأويلها بالقدرة أو النعمة، وإبطال ذلك. فقد عقد فصلاً كاملاً في إثباتها والرد على من تأولها في كتابه "الإبانة".
خلاصة الفصل:
أولاً: إثبات صفة اليد لله تعالى حقيقة، وأنها موصوفة بالقبض، والبسط، والهز، والطي، والنضح، والأخذ، وهي ملئى سحاء الليل والنهار، ولها كف وأصابع، ويمين وشمال. وأنهما يدان اثنتان. وعلى هذا إجماع السلف وصالح الخلف.
ثانياً: أن طريقة السلف في إثبات صفة اليد لله تعالى هي طريقتهم في باقي الصفات الخبرية: كالوجه، والعينين، والقدم، والساق، والكف، ونحوها، يثبتونها على ظاهرها من غير تشبيه ولا تكييف، ويمنعون من تأويلها وإخراجها عن حقيقتها.
ثالثاً: موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في إثبات صفة اليدين لله تعالى على الحقيقة، والمنع من تأويلها، بل وكل الصفات الخبرية لله تعالى، كما سبق نقل كلامه.
رابعاً: أن الذين عُرف عنهم تأويل صفة اليدين وإخراجهما عن حقيقتهما هم المعطلة من الجهمية والمعتزلة، وهذه طريقتهم في كل الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه وغيره.
خامساً: موافقة الأشاعرة للجهمية في نفي حقيقة اليد عن الله تعالى، وتأويلها وإخراجها عن ظاهرها، وأنهم جهمية في هذا الباب من الصفات:
قال أبو منصور عبد القاهر البغدادي الأشعري في "أصول الدين": (وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل –أي: تأويل اليد بالقدرة- وذلك صحيح على المذهب)[111] اهـ.
وقال في صفة الوجه والعينين لله تعالى: (والصحيح عندنا أن وجهه: ذاته، وعينه: رؤيته للأشياء)[112] اهـ.
وقال أبو المعالي الجويني في "الإرشاد" في فصل "اليدان والعينان والوجه": (والذي يصح عندنا: حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود)[113] اهـ.
وقال الأشعريان (ص196): (فترى جمهور السلف لاحتمال اللفظ أكثر من معنى لديهم –أي: المعاني المجازية لا حقيقة الصفة- يتوقفون عن تعيين أحدها مكتفين بالفهم الإجمالي ......{بل يداه مبسوطتان} المائدة64، أن الله تعالى جواد كريم .... ويفهمون من قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} الفتح10، النصرة والثواب، وهكذا، ..... بيد أن هذا لا يمنع البعض منهم رضي الله عنهم من التصريح ببعض هذه المعاني –أي المجازية-...) اهـ.
ونقول: إذا كان السلف يتوقفون كما زعمتم فما بالكم تجاسرتم!!
وقد سبق الرد على هذه الأغلوطات في خلاصة الفصل الأول من الباب الأول، وبينا أن حقيقة هذا القول الذي نسبوه إلى السلف هو الجهل بالمعنى.
ونقل الأشعريان عن ابن خلدون قوله (ص199-201): (وأما لفظ الاستواء، والمجيء، والنزول، والوجه، واليدين، والعينين، وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها على طريقة العرب حين تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز ..) ثم قالا: (وهذا الذي قرره وحرره العلامة ابن خلدون هو ما أطبقت عليه الأمة) اهـ.
فيا لله العجب، أي أمة هذه التي أطبقت على مثل هذا!!!
وفي أي كتاب وجدتم قول واحد من السلف فضلاً عن جميعهم!!
وبعد كل هذا: يتبين بطلان ما زعمه الأشعريان من موافقة الأشاعرة للسلف، وفساد هذه الدعاوى العريضة التي لا مستند لها إلا الأوهام والخيالات.
ويكفي في إبطال قولهم ورده ما قاله إمامهم الذين ينتسبون إليه وهو أبو الحسن الأشعري في كتاب "الإبانة"، حيث أبطل جميع هذه المجازات في صفة اليد لله، وأنكر على أهلها، وجعلهم من المعطلة المخالفين للكتاب والسنة والإجماع واللغة.
فوازن بين أقوال الجهمية، وبين أقوال الأشاعرة في هذا الباب من الصفات، فإنك لا تجد بينهما فرقاً، فالفريقان قد اتفقا على نفي حقائقها عن الله تعالى، وتعيّن حملها على المجاز!. فلا أدري أيهما أحق بانتساب الأشاعرة إليهم: السلف أم الجهمية !!
إثبات صفة اليدين لله تعالى على الحقيقة لا على المجاز
لقد تنوعت دلالات الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله تعالى، بما يمتنع معها حمل اليدين على المجاز، وقد أطبقت كلمة السلف رحمهم الله على إثبات اليدين لله تعالى صفة له في ذاته، ليستا بنعمتين ولا قدرتين، بل يدان ثابتتان لله تعالى على الحقيقة، بلا كيف ولا تشبيه.
وأنا أذكر نماذج من تنوع الأدلة على إثبات صفة اليد لله تعالى:
التثنية:
قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64.
تثنية اليد المضافة إليه سبحانه تمنع من حملها على النعمة أو القدرة.
نسبة الفعل إليه سبحانه وتعديته إلى اليد بحرف الباء:
قال: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ص75.
نسب الفعل -وهو الخلق- إلى نفسه، ثم عدى الفعل إلى اليد، ثم ثناها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قول القائل" كتبت بالقلم" و"ضربت بيدي"، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه من الوجوه، إذا لا يكون هذا التركيب إلا ما باشرته اليد.
قال أبو الحسن الزاغوني في "الإيضاح": (أنه أضاف "الخلق" وهو فعل يده سبحانه، والفعل متى أضيف إلى اليد فإنه لا يقتضي إضافة إلا إلى ما يختص بالفعل وليس إلا اليد كما ذكرنا، وهذا جلي واضح)[93] اهـ.
وقال أبو الحسن الأشعري: (وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى: {بيدي} ص75، النعمة، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل: لي عليه يدي، بمعنى لي عليه نعمتي، ومن دافَعَنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة، إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها، وأن لا يثبت اليد نعمة من قِبَلها، لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى: {بيدي} ص75، نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل: بيدي، يعني نعمتي، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد له سبيلا)[94] اهـ.
استعمال لفظ اليمين ووصفها بالطي
قال تعالى: {والسموات مطويات بيمينه} الزمر67.
وعن عبد الله بن عمرو t قال: قال r: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)[95].
وصفها بالقبض والهز
قال تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} الزمر67.
وعن أبي هريرة t سمعت رسول الله r يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض)[96].
فها هنا: هز، وقبض، وطي، وذكر يدين.
وصفها بالبسط
قال تعالى: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64.
وعن أبي موسى t عن النبي r قال: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)[97].
وصفها بالكف والأخذ
عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (ما تصدق أحد بصدقة من طيّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فَلُوّه أو فصيله). وفي لفظ (من كسب طيب)[98].
فها هنا: أخذ، وذكر كف ويمين.
وصفها بالنضح
عن لقيط بن عامر t في الحديث الطويل عن النبي r وفيه: (فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطي وجه واحد منكم قطرة، فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم الأسود)[99].
وصفها بالشمال
عن عبد الله بن عمر t قال: قال رسول الله r: ( يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)[100].
وصفها بالأصابع
عن عبد الله t قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله r فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي r حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله r {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} الزمر67)[101].
وصفها بأنها ملئى، وبأنها أخرى
عن أبي هريرة t: أن رسول الله r قال: (يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وقال: وكان عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)[102].
فها هنا: وصف بأنها ملئى، وسحاء، وأنها أخرى.
ومن المعلوم أن لفظ: الطي، والقبض، والهز، والبسط، والإمساك، والنضح، وكونها ملئى، وسحاء، إذا اقترنت باليد صار المجموع حقيقة، وامتنع من أن يكون مجازاً، إذ أن اليد المجازية لا يقترن بها ما يدل على اليد حقيقة كهذه الألفاظ. فإذا انضاف إلى ذلك أن ذُكر لها: أصابع، وكف، ويمين، وشمال، وأخرى، فهذا مما يُقطع معه أن اليد حقيقة، لأن اليد المجازية لا يُتجاوز فيها لفظ اليد، ولا يُتصرف فيها بما يُتصرف في اليد الحقيقية. فلا يقال: كف، لا للنعمة ولا للقدرة، ولا أصبع وأصبعان، ولا يمين، ولا شمال، وهذا كله ينفي أن يكون اليد يد النعمة، أو يد القدرة، أو يد التصرف.
فمن ادعى بعد هذا أن اليد المضافة إلى الله تعالى مجاز، فلا حقيقة في الوجود!!!
وبهذا يتبين أن صفة اليد لله تعالى حقيقة لا مجاز، ولا يأبى ذلك إلا مكابر.
ومما يؤكد هذا أن يُقال: أن اليد لغة لا تضاف إلا لذي يد، فيد القدرة والنعمة لا يُعرف استعمالها البتة إلا في حق من له يد حقيقة، وموارد استعمالها مطردة في ذلك، ولا يعرف العرب خلاف ذلك. فحيث ذكرت اليد وأضيفت إلى حي متصف بصفات الأحياء وأريد بها النعمة أو القدرة، فإن هذا مستلزم ثبوت أصل اليد له حقيقة حتى يصح استعمالها في مجازاتها، فإذا امتنعت حقيقة اليد امتنع استعمالها فيها، فثبوت المعنى المجازي دليل على ثبوت حقيقة اليد.
قال عثمان بن سعيد الدارمي: (فإن لم يكن المضاف إلى يده من ذوي الأيدي، يستحيل أن يُقال: بيده شيء من الأشياء .... فيجوز أن يُقال: بين يدي كذا وكذا كذا كذا، لما هو من ذوي الأيدي، وممن ليس من ذوي الأيدي. ولا يجوز أن يُقال: بيده، إلا لمن هو من ذوي الأيدي..)[103] اهـ.
ولا يَرِد على هذا قول العرب: "يد الليل" و"يدي الرحمة"، لأنا قلنا: متى أضيفت اليد المجازية إلى الحي دون غيره، استلزمت اليد الحقيقية.
على أنه يُقال: أن المضاف من جنس المضاف إليه، فإذا أضيفت اليد إلى الحيوان كانت من جنسه، وإذا أضيفت إلى الحائط أو الليل كانت من جنسهما. فإذا كان المضاف إليه لا يماثل غيره لزم أن يكون المضاف كذلك ضرورة، فإذا قيل يد الله كان ذلك حقيقة غير مستلزم للتشبيه.
وأما نصوص السلف فقد سبق ذكر بعضها:
~ الإمام التابعي حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي (82 هـ)
قال: (إن الله تبارك وتعالى لم يمس بيده من خلقه غير ثلاثة أشياء خلق الجنة بيده ثم جعل ترابها الورس والزعفران وجبالها المسك وخلق آدم بيده وكتب التوراة لموسى)[104] اهـ.
وهذا صريح في إثبات حقيقة اليد لله تعالى.
~ زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (93 هـ)
قال مستقيم: قال كنا عند علي بن حسين ،قال: فكان يأتيه السائل، قال: فيقوم حتى يناوله، ويقول: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، قال: وأومأ بكفيه)[105] اهـ.
~ التابعي العابد خالد بن معدان الكلاعي الحمصي (103 هـ)
قال: «إن الله عز وجل لم يمس بيده إلا آدم صلوات الله عليه خلقه بيده، والجنة، والتوراة كتبها بيده»[106] اهـ.
~ عكرمة أبو عبد الله مولى بن عباس (104 هـ)
قال: «إن الله عز وجل لم يمس بيده شيئا إلا ثلاثاً: خلق آدم بيده، وغرس الجنة بيده ، وكتب التوراة بيده»[107] اهـ.
وقال أيضاً: (قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64: يعني اليدين)[108] اهـ.
~ الإمام التابعي ربيعة الخرشي
قال في قول الله تعالى: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الزمر67، قال: (ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء)[109] اهـ.
وهذا صريح في إثبات حقيقة اليد لله، وأنها ليست النعمة أو القدرة.
~ الإمام التابعي عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة (117 هـ)
قال نافع بن عمر الجمحي: (سألت ابن أبي مليكة عن يد الله: أواحدة أو اثنتان؟ قال: بل اثنتان.)[110] اهـ.
وهذا أيضاً بيّن في إثبات حقيقة اليد لله عز وجل، وإبطال حملها على المجاز والقول بأنها النعمة أو القدرة.
فرع: تقرير إثبات صفة اليد لله على الحقيقة من كلام أبي الحسن الأشعري
قد سبق نقل كلام أبي الحسن الأشعري في إثبات صفة اليدين لله تعالى، والمنع من تأويلها بالقدرة أو النعمة، وإبطال ذلك. فقد عقد فصلاً كاملاً في إثباتها والرد على من تأولها في كتابه "الإبانة".
خلاصة الفصل:
أولاً: إثبات صفة اليد لله تعالى حقيقة، وأنها موصوفة بالقبض، والبسط، والهز، والطي، والنضح، والأخذ، وهي ملئى سحاء الليل والنهار، ولها كف وأصابع، ويمين وشمال. وأنهما يدان اثنتان. وعلى هذا إجماع السلف وصالح الخلف.
ثانياً: أن طريقة السلف في إثبات صفة اليد لله تعالى هي طريقتهم في باقي الصفات الخبرية: كالوجه، والعينين، والقدم، والساق، والكف، ونحوها، يثبتونها على ظاهرها من غير تشبيه ولا تكييف، ويمنعون من تأويلها وإخراجها عن حقيقتها.
ثالثاً: موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في إثبات صفة اليدين لله تعالى على الحقيقة، والمنع من تأويلها، بل وكل الصفات الخبرية لله تعالى، كما سبق نقل كلامه.
رابعاً: أن الذين عُرف عنهم تأويل صفة اليدين وإخراجهما عن حقيقتهما هم المعطلة من الجهمية والمعتزلة، وهذه طريقتهم في كل الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه وغيره.
خامساً: موافقة الأشاعرة للجهمية في نفي حقيقة اليد عن الله تعالى، وتأويلها وإخراجها عن ظاهرها، وأنهم جهمية في هذا الباب من الصفات:
قال أبو منصور عبد القاهر البغدادي الأشعري في "أصول الدين": (وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل –أي: تأويل اليد بالقدرة- وذلك صحيح على المذهب)[111] اهـ.
وقال في صفة الوجه والعينين لله تعالى: (والصحيح عندنا أن وجهه: ذاته، وعينه: رؤيته للأشياء)[112] اهـ.
وقال أبو المعالي الجويني في "الإرشاد" في فصل "اليدان والعينان والوجه": (والذي يصح عندنا: حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود)[113] اهـ.
وقال الأشعريان (ص196): (فترى جمهور السلف لاحتمال اللفظ أكثر من معنى لديهم –أي: المعاني المجازية لا حقيقة الصفة- يتوقفون عن تعيين أحدها مكتفين بالفهم الإجمالي ......{بل يداه مبسوطتان} المائدة64، أن الله تعالى جواد كريم .... ويفهمون من قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} الفتح10، النصرة والثواب، وهكذا، ..... بيد أن هذا لا يمنع البعض منهم رضي الله عنهم من التصريح ببعض هذه المعاني –أي المجازية-...) اهـ.
ونقول: إذا كان السلف يتوقفون كما زعمتم فما بالكم تجاسرتم!!
وقد سبق الرد على هذه الأغلوطات في خلاصة الفصل الأول من الباب الأول، وبينا أن حقيقة هذا القول الذي نسبوه إلى السلف هو الجهل بالمعنى.
ونقل الأشعريان عن ابن خلدون قوله (ص199-201): (وأما لفظ الاستواء، والمجيء، والنزول، والوجه، واليدين، والعينين، وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها على طريقة العرب حين تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز ..) ثم قالا: (وهذا الذي قرره وحرره العلامة ابن خلدون هو ما أطبقت عليه الأمة) اهـ.
فيا لله العجب، أي أمة هذه التي أطبقت على مثل هذا!!!
وفي أي كتاب وجدتم قول واحد من السلف فضلاً عن جميعهم!!
وبعد كل هذا: يتبين بطلان ما زعمه الأشعريان من موافقة الأشاعرة للسلف، وفساد هذه الدعاوى العريضة التي لا مستند لها إلا الأوهام والخيالات.
ويكفي في إبطال قولهم ورده ما قاله إمامهم الذين ينتسبون إليه وهو أبو الحسن الأشعري في كتاب "الإبانة"، حيث أبطل جميع هذه المجازات في صفة اليد لله، وأنكر على أهلها، وجعلهم من المعطلة المخالفين للكتاب والسنة والإجماع واللغة.
فوازن بين أقوال الجهمية، وبين أقوال الأشاعرة في هذا الباب من الصفات، فإنك لا تجد بينهما فرقاً، فالفريقان قد اتفقا على نفي حقائقها عن الله تعالى، وتعيّن حملها على المجاز!. فلا أدري أيهما أحق بانتساب الأشاعرة إليهم: السلف أم الجهمية !!